كُتـــــب عشــــت معهــــا (7) «مـذكــــــرات شـــــاهـــد الـقـــــــرن» لـمالك بن نـبـي
![](https://cdn.elbassair.dz/wp-content/uploads/2020/06/95962.2018-10-21.1540138798.jpg)
أد. مولود عويمر /
في ساعة الراحة كنا نخرج مع بعض الأصدقاء إلى حديقة الجامعة بمرتفعات الخروبة، ونجلس على المقاعد أو فوق الحشيش ونشاهد من هذه الهضبة العالية مشاهد لا نظير لها: محطة القطار، ملعب سباق الخيل، المطحنة الحمراء التي تشبه المطحنة الحمراء الشهيرة في باريس، والبحر والسفن الراسيات والعابرات.
كل هذه اللوحة الرائعة تتمثل أمامنا ونحن نتساءل فيما بيننا: ماذا يوجد في المركب السياحي-الرياضي؟ وماذا يوجد ما وراء البحر؟ وهل يسعفنا الحظ يوما ونسافر في تلك السفن ونقطع البحار والمحيطات؟
نزلنا مرة إلى المركب الرياضي لنتفسح معا ونشبع فضولنا ونحن نطمع في الإجابة عن بعض الأسئلة الكثيرة التي كانت تشغلنا آنذاك.
سرنا في أرجائه الواسعة ودخلنا إلى محلاته، ومنها محل صغير لبيع الكتب والمجلات، فاشتريت منه ثلاثة كتب، ومن بينها: «مذكرات شاهد القرن» لمالك بن نبي الصادرة في كتاب واحد بجزأيه (الطفل والطالب) في طبعة جديدة راقية.
لم أكن مهتما بفكر مالك بن نبي قبل دخولي إلى الجامعة، فأتذكر فقط نصا له في كتاب الأدب العربي المقرر علينا في قسم الباكالوريا. ورغم أن نظريته في الحضارة كانت مقررة في مادة الفلسفة إلا أننا لم ندرسها، ولا أدري لماذا؟
اكتشفت مالك بن نبي في الجامعة في سنة 1987، ومنذ هذا التاريخ لم أتوقف عن قراءة أعماله التي قدمت حولها محاضرات عديدة وأنجزت عنها كتابين.
بدأت رحلتي معه بقراءة «شروط النهضة» ثم «وجهة العالم الإسلامي» الذي سحرني وقرأته عدة مرات. أما كتاب «مذكرات شاهد القرن» فإنني قرأته فيما بعد في ظرف خاص يشبه الحجر المنزلي الذي نعيشه اليوم بسبب جائحة الكورونا التي غزت العالم، وأجبرت الناس على المكوث في البيوت ليحافظوا على صحاتهم وينجوا بحيواتهم.
دخلت الجزائر في حالة الطوارئ بعد انتفاضة 5 أكتوبر 1988 وأغلقت المؤسسات وتعطلت وسائل النقل لعدة أيام، فقضيت تلك الفترة في الإقامة الجامعية التي لم يبق فيها إلا عدد قليل من الطلبة.
اغتنمت هذا الحجر لقراءة «مذكرات شاهد القرن» التي اشتريتها أيام قليلة من قبل. لم أفارق هذا الكتاب في الليل أو في النهار، ولا أتوقف عن المطالعة إلا لأداء الصلاة أو للخروج إلى الحي الشعبي المجاور لإقامتنا الجامعية لأشتري من هناك وبسرعة ما كنت أحتاج إليه من الأكل والشراب.
ومرت الأيام على هذا المنوال ولم أشعر أبدا بالخوف أو القلق، فقد كنت أعيش خارج السرب، وأعيش خارج الزمن والمكان، منعزلا في غرفتي في هدوء تام، مركزا في مطالعتي التي نقلتني عبر عوالم متعددة، فعشت مع حياة مالك بن نبي لحظة بلحظة في أحزانه وفي أفراحه، وتابعت مسيرته خطوة بخطوة.
لقد عشت معه في قسنطينة والتبسة، وسافرت معه إلى فرنسا، وتجولت معه في الحي اللاتيني، وسهرت معه في بيته الصغير بصحبة حمودة بن الساعي نتناقش معا في هموم الجزائر المستعمَرة ونأمل في تحررها واستعادة سيادتها في المستقبل القريب، ونتجادل في قضايا فكرية وسياسية، ونحلم بمصير الإنسانية السعيد، وننشد عالم الغد الذي لا يظلم فيه أحد.
ولأول مرة في حياتي أقرأ نصا وأتمنى أن لا ينتهي أبدا لأحيا وأعيش خالدا مع عوالمه الثلاثة: الأشخاص والأفكار والأشياء، لكن لكل بداية نهاية بسعادتها وأحزانها، ولكل قصة خاتمة بحلوّها ومرّها، ولكل تجربة حصيلة بنجاحاتها وإخفاقاتها.
وهكذا، وجدت نفسي بعد أيام لا تنسى أصل إلى الصفحة الأخيرة (ص 428) من الكتاب، وأقف حزينا في المرفأ لكي أودّع من بعيد مالك بن نبي الذي يغادر الجزائر نحو فرنسا على ظهر السفينة «بينما بدأ الليل يسدل ستاره رويدا رويدا على بحر هائج تتراكم أمواجه بعضها فوق بعض».
وبعد تلك اللحظات المؤلمة رجعت إلى عالم اليقظة، وتذكرت حينئذ جلساتي الممتعة في حديقة الجامعة، ونظراتي إلى البحر والسفن الراسيات والعابرات، فتجدّدت رغبتي في اختراق الآفاق.