أقلام القراء

حول مصادر المعرفة في الإسلام/ بقلم :د.إبراهيم نويري ـ كاتب و باحث جامعي

 

 

 

تتباين وتتمايز مصادر المعرفة في الإسلام وفكريته عن مصادر المعرفة في الحضارة الغربية والمناهج الوضعية عامة، سواء القديمة ممثلة في الإغريق والرومان، أو المعاصرة ممثلة في أوروبا وأمريكا وغيرهما.. إن الغيب وفق ما جاء في التنزيل الكريم ، مصدر رئيس وأصيل للمعرفة في الإسلام، بل إنه مُحدِّدٌ أساسٌ، له صلاحية وله مقام إعادة صياغة مصادر المعرفة الأخرى، وهي العقل والحس والتجربة، بمعنى أن الإيمان بعالم الغيب له الأسبقية في رسم التصور السليم فيما يتعلق بكيفيات وآليات التعامل مع مصادر المعرفة المنتمية لعالم الشهادة، والذي يترتب على ذلك منطقياً، يتمثل في تميّز منهج المعرفة في الإسلام، عن منهج المعرفة في الحضارة الغربية، الذي يبدو أنه لا يقرّ سوى بالعقل والحس -التجربة عنده جزء من الحس-ـ مصدرين للمعرفة.

إن الغيب في منهج وفكرية الحضارة الغربية هو مسألة ذاتية متعلقة بمزاج الفرد نفسه ومدى استعداده لنزوع التديّن، وبالتالي فإن المعرفة الغيبية والدينية لا تُعدّ جزءاً من منهج المعرفة في الحضارة الغربية، ولا ريب أن كلّ مَن أتيح له الاطلاع الواسع يعرف الكثير من تفاصيل هذه القضية في الفكر الغربي، مثل وجود مغالين شدّدوا على إبعاد وإقصاء المعرفة الغيبية بشكل حدّي ونهائي عن منهج المعرفة، كالفيلسوف الأمريكي وليام جيمس مؤسس ما يُعرف بالوضعية المنطقية؛ ومتساهلين دافعوا عن ضرورة إدراج الغيب والميتافيزيقا والإيمان الديني، ضمن منهج المعرفة، ما دام ذلك يُعدّ من الأمور التي لا محيص عنها، لشدة ارتباطه بكينونة الإنسان والتفكير في مصيره، ومثالهم الفيلسوف الألماني الأخلاقي إيمانويل كانط، وأكثرية فلاسفة الأخلاق في الغرب.

 

إن الإيمان بالغيب المستند على الخبر الصادق الثابت بطرق الإعجاز إنما هو أساس ومرتكز منهج المعرفة الإسلامي. كما سلفت الإشارة ـ يقول الله تعالى :(الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة 1-3].. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “طرق العلم ثلاثة: الحس والعقل، والمركّب منهما كالخبر، فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلاّ بالخبر، كما يعلمه كلّ شخص بأخبار الصادقين، كالخبر المتواتر وما يُعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا التقسيم يجب الإقرار به، وقد قامت الأدلة اليقينية على نبوات الأنبياء، وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يُعلم إلاّ بالخبر، وكذلك يُعلِمون غيرهم بخبرهم .. “.

ومحل الشاهد هنا هو الخبر.. والخبر -كما يقسمه مفكرو الإسلام- قسمان: صادق وكاذب؛ فالخبر إذا كان مصدره الله تبارك وتعالى، وثبت ذلك بالمعجزة التي يؤيد الله تعالى بها أنبياءه ورسله، فهو صادق كله، يستوي في ذلك قطعي الدلالة وظني الدلالة، المحكم منه والمتشابه؛ أما إذا كان مصدره الإنسان فهو يحتمل الصدق ويحتمل الكذب معاً، لذلك فإن الخبر ركن في المعرفة، فإذا كان المقصود به الوحي الإلهي، فإن منهج المعرفة الإسلامي يجعله الحاكم والمؤطر لغيره من مصادر المعرفة الأخرى، وإذا كان المقصود به الخبر البشري، فهو مجرد جزء من منظومة المعرفة.. فلو أخبرنا شخص صادق بخبر ما أو بحدوث حادثة معينة، فإن مضمون وكيفية حدوث تلك الحادثة أو الواقعة تصبح جزءاً من معرفتنا وعلمنا على وجه اليقين.

وبالاطلاع على تراثنا الفكري الإسلامي ندرك بأن علماء الأصول وعلماء التأويل وبعض المفكرين والفلاسفة المسلمين، بذلوا جهوداً مقدورة وثمينة استهدفت ضبط العلاقة بين عالمي الغيب والشهادة، حتى لا يختلط الأمر على المسلمين ويتشابه البقر.. فيضطرب الفكر الإسلامي وتعمّ الفوضى الثقافة الإسلامية، وبالتالي الحياة الإسلامية.

ولعله من المناسب التذكير ببعض المؤلفات الفكرية الإسلامية القيمة، التي عالجت هذا الإشكال المعرفي باقتدار منهجي بديع، ومنها على سبيل المثال فحسب، وليس التفصيل: (الموافقات) للإمام إبراهيم الغرناطي المشهور بالشاطبي، و(معيار العلم) لأبي حامد الغزالي، و(أساس التقديس) للإمام المفسر الفخر الرازي، و(فصل المقال وتقرير مابين الشريعة والحكمة من اتصال) للفقيه الفيلسوف ابن رشد الأندلسي،  و( درء تعارض المعقول والمنقول) للإمام ابن تيمية، و( الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) للإمام الأصولي أبي المعالي الجويني .. إلخ ..

ومع أن منهج القرآن نفسه مُجْزِئٌ في تفهيم وطمأنة القوى والملكات والمواهب التي أودعها الخالق تركيبة الإنسان وفي طليعتها العقل والفطرة السليمة ، وشحنها بحقائق الاعتقاد الصحيح عن عالم الغيب، بيد أن فريقاً من أهل الإيمان ضل السبيل وتنكّب الجادة، تحت مظلة الحرية في توسيع مصادر المعرفة، فالمتصوفة مثلا أو أهل الأحوال كما يُسمّون، جعلوا الإلهام  والذوق أو الجانب الوجداني عموماً، المصدر الأساس والأهم للمعرفة، مما أفضى -كما يُفهم من تراثهم الفكر- إلى اضطراب معادلة العلاقة الصحيحة بين العقل والنقل، أو عالمي الغيب والشهادة، وفي تصوير هذه المعضلة التي طوّحت بالعقل المسلم وأخرت مسيرة رسالة الفكر الإسلامي والتشغيب على دوره  يقول المفكر المسلم الراحل الشيخ الغزالي: “.. وإنه لثقل على صدر الحياة أن يوجد جيل من الناس لا يعي أن الكون محكوم بقوانين دقيقة، ولا يدري أن العقل اليقظ هو الوسيلة الفذة لمعرفة الله، عن طريق تأمل ملكوته وتدبر وحيه وإنفاذ وصاياه  وإعلاء كلماته.. إن الدين يتضمن جانباً من الإيمان بالغيب، وهو كذلك يتضمن جوانب من عالم الحس والحركة، والجانب الأول ينظم الجوانب الأخرى ويساندها ولا يحيف عليها أو يشرد بها، ومن ثمّ قلنا: إن الإيمان بالغيب ليس إيماناً بالوهم ولا إيذاناً بالفوضى”.

مما لا شكّ فيه أن هذه المسألة وضبطها منهجياً هي مسألة حساسة جداً، فهي مربط الفرس في عملية التقدم والنهضة والإقلاع الحضاري حسب تعبير استاذنا الكبير المرحوم مالك بن نبي.

والله وليّ التوفيق .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com