هكذا كانت تتم العمليات العسكرية في الجزائر خلال العهد العثماني

فوزي سعد الله /
عَكس ما قد يُعتقَد، لم تكن القوات المسلحة البرية الجزائرية خلال العهد العثماني كلها من القوات النظامية الحكومية المعروفة بـ: الانكشارية. وما كان لها أن تنجح أبدا في فرض النظام وتثبيت الحُكم لوْلا سند القوات المحلية الأهلية من زواوة جبال جرجرة وكتائب آل آمُقْرَان، المعروفين بـ: المُقرانِي، المَجَّانِيِّين في منطقة جبال البَابُورْ إلى الحْنَانْشَة القريبين المنتشرين حتى الحدود التونسية فقبيلة الذُّوَاوْدَة عَرَب الصحراء الهلاليين وغيرهم.
كانت الانكشارية مستقرة عادةً في الثكنات، أو»القشلات» بتعابير ذلك العهد، وفي القلاع والأبراج وفي الحاميات خارج العاصمة الجزائر، وفي بقية المدن والبلدات والواحات على غرار سُور الغُزْلاَن وبُرج بُوعْرِيرِيجْ وبُرج سْبَاوْ وبرج أم نائل وبرج ثنية بني عائشة وبرج يَسَّرْ في البويرة وفي بسكرة وغيرها، وأيضا حوالي الأماكن الاستراتيجية كالجُسور، كقنطرة الحَرّاش، والممرات الأساسية الخطيرة كالخوانق الجبلية على غرار «بيبان الحديد» قرب برج بوعريريج.
وإذا كانت الانكشارية مكتفية نسبيا بقدراتها في العاصمة والمدن الكبرى، فإنها خارجها لا حول لها ولا قوّة دون مقاتلي أهالي تلك المناطق ودورهم القوي في المساعدة على تحقيق الأمن والاستقرار.
القوات الانكشارية الحكومية… والقوات الشعبية القبلية الاحتياطية…
في الحقيقة، في الجزائر، لم تكن هذه القوات الانكشارية، التي لم يتجاوز عددها في أوج قوة الدولة الجزائرية آنذاك ما بين اثنا عشر ألف إلى خمسة عشر ألف عسكري على أقصى تقدير، سوى نواة وقوة مداوِمة للقوات المسلّحة الجزائرية الأكبر والأوسع المتشكّلة من مختلف أهالي البلاد. وكانت النواة الأولى للانكشارية في بداية القرن 16م، بالإضافة إلـى ال: مائتي أو أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل على أقصى تقدير جاؤوا مع عروج. تلك الدفعة الأولى من ألفيْ انكشاري التي أرسلها السلطان العثماني بطلب من الجزائريين بعد انضوائهم تحت رايته…
في سنة 1829م، قبل عام من الغزو الفرنسي الاستعماري وانهيار النظام الجزائري العثماني، «لم يكن يتجاوز عدد هذا الجيش (الانكشاري) في الواقع ثلاثة آلاف وستمائة وواحد وستين (3661) رجلا حسب السجلات الرسمية»، على حد قول ناصر الدين سعيدوني في كتابه: «ورقات جزائرية». في حين وصل عدد أفراد الفرق (الأهلية) العاملة في الريف والمدن إلى ثلاثين ألف رجل عوضوا العجز الكبير في القوات النظامية الانكشارية في المدن الكبرى وعدد من البلدات. كانت هذه القوة الانكشارية المداوِمة تعتمد نسبيا على قدراتها الذاتية في نشاطاتها الروتينية كالحراسة وتأمين الحياة اليومية للمواطنين. لكن أمام الاعتداءات الأجنبية والتمرّدات والثورات الداخلية وضرورات جباية الضرائب من طرف البايات «الولاة الإقليميين» ما كان بمقدورها التصرُّف بمفردها، بل كان القيام بمهامها شبه مستحيل دون التدخل القوي إلى جانبها، والحاسم -في أغلب الأحيان- للقوات الاحتياطية الشعبية التي توفرها مختلف القبائل في مختلف جهات البلاد لتعزيز قدراتها وفعاليتها. وينطبق ذلك على مدينة الجزائر كما على بَايْلِك، أيْ ولاية، الشرق وبايلك الغرب وبايلك التِّيطْرِي في الوسط.
وبَلغتْ أهميةُ هذه القوات الاحتياطية الشعبية من القوة حدَّ توظيفها كأداة تهديد حاسمة لِباي قسنطينة صَالح باي «باي البايات»، ولقواته النظامية الانكشارية الموالية له من طرف مبعوث الداي حسين بُوحْنَكْ (1792/1795م) بسحقه بإطلاق قوات الاحتياط القبلية عليه قائلا له -حسب شهادة مبارك ابن العطار القسنطيني-: «إن كنتم في طاعة الجزائر فبها ونَعِمَتْ، وإن خرجتُم عن الطاعة أغريْتُ لَكُم العربَ فلا يَبقى أحدٌ منكم إلا قتلوه…»
وإذا كانت القوات الحكومية الدائمة عند تحرُّكها في مهمة جباية الضرائب داخل البلاد، «المْحَلّة»، ابتداءً من فصل الربيع لا تتجاوز في الحالات الاعتيادية حوالي ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف عسكري، فإن المَدَدَ الذي يأتيها من القبائل يفوقها بالأضعاف المضاعَفة، بل كان «بمثابة العمود الفقري لهذه الحملات…». يقول ناصر الدين سعيدوني في «ورقات جزائرية»: وكانت هذه القوات القبلية ابتداء من القرن 18م صاحبة «الدور الحاسم» -على حد تعبيره- في المهام العسكرية. وكانت هذه القبائل -في المقابل- لها سيادتها في إدارة شؤونها الداخلية في ما يُشبه الحُكم الذاتي، مثلما كان يحدث عمومًا مع القبائل والطوائف الدينية والتنظيمات الحِرفية في مختلف الولايات العثمانية، مع الولاء للدولة واتّباع سياساتها في مجالات الدفاع والمالية.
مَن هي هذه القبائل بالأرقام؟
مِنْ أهم هذه القوات القبلية الشعبية؛ قوات قبيلة الذّوَاوْدَة الهِلالية بقيادة أسرة بوعكّاز في الصحراء بالجنوب، التي تحالفتْ مع العثمانيين، منذ اتفاقاتها مع خير الدين بربروس في بداية القرن 16م، وقبيلة أولاد مقران في مَجَّانة بمنطقة برج بوعريريج وتوصف بـ: البربرية عموما. واشتهر منهم لاحقا الحاج محمد المقراني قائد ثورة 1871م ضد المحتلين الفرنسيين، وقبيلة الحنانشة في شمال شرق البلاد بنواحي سطيف إلى سوق أهراس حتى الحدود التونسية.
كانت قبيلة الحنانشة لوحدها توفر للحكومة عند الحاجة ما بين أربعة آلاف إلى ثمانية آلاف فارس، دون المشاة بآلاف أخرى على الأقل، يقول الفرنسي بيصونيل(Peysonnel): وقبيلة الذواودة تُجنِّد لهذه المهام العسكرية الحكومية حوالي خمسة آلاف فارس وحتى أكثر، دون المشاة. مثلما كان بحوزة آل أمقران «أو المقراني» عشرة آلاف فارس وجيش آخر من المشاة. فضلاً عن أسرة بن قانَة في نواحي بسكرة التي كانت توفر قوة تفوق ألفيْ مقاتل أكثر من نصفهم من الفرسان. بالإضافة إلى قوات قبائل الشعانبة التي كانت تلتحق به عند الضرورات الأمنية التي تواجهها السلطات المركزية في مدينة الجزائر.
كما كانت قبائل الدواير في التيطري توفر حوالي ألفيْ مقاتل عند الحاجة، وتجند دواير ميلة ألفَ فارس دون المشاة، وتقريبا نفس الأعداد كانت توفرها دواير جميلة ووادي الزناتي في قالمة. مثلما كانت قبيلة الحراكتة توفر حوالي أربعة آلاف فارس دون المشاة. ولا حاجة للقول ما ذا تساوي الانكشارية، قوة «الاحتلال» العثماني المزعوم للبلاد، عدديا أمام كل هذه القوات المحلية؟! وحتى التجاوزات التي كانت ترتكبها من حين لآخر «المحلة» في حق سكان الأرياف خلال جمعها الضرائب، لا سيما عندما ضعفت الدولة واختلط الحابل بالنابل كما يحدث لنا اليوم، «لم تكن حكرا على أفراد الانكشارية». تقول الباحثة جميلة معاشي في أطروحتها لنيل الدكتوراه «الانكشارية والمجتمع ببايلك قسنطينة»: (بل شاركت فيها القوات المحلية المرافقة هذه القوات الاحتياطية كالزمول والدواير…
ومخطئ من يعتقد أن زعماء القبائل الرئيسية كانوا مجرّد خدم وعرائس قراقوز عند العثمانيين، بل كانوا مهابين من طرف الدايات والبايات. ومن القوة أن بعضهم كان يُعامل كما يُعامل البايات أنفسهم من قِبل السلطات. حتى أنّ باي قسنطينة كان يُرسل إلى بعض شيوخ القبائل البدلة التقليدية التي يتلقاها من الداي كرمز رسمي للتعييين في المنصب ليحتفظوا به لديهم لفترة ويتباهون به وكأنه رمز تعيين لهم… مثلما كانت لبعضهم القدرة على الإطاحة بالبايات والآغوات وكبار مسؤولي الدولة حيث يُنسَب إلى عائلة بن قانة دور قوي في النهاية المأساوية لصالح باي (أشهر وأقوى وأنجح بايات قسنطينة والجزائر كلها خلال العهد العثماني سنة 1792م)…
أحداث وأرقام تتحدث بنفسها عن القوات المسلحة الجزائرية في العهد العثماني:
في منتصف خمسينيات القرن 16م، عندما أرادت الدولة (الجزائرية/العثمانية) الناشئة بسط نفوذها على أعماق الصحراء الشرقية، تكفل بهذه العملية العسكرية حاكم البلاد (باي لارباي صالح رايس) الذي سار إليها من مدينة الجزائر مرفوقا بـ: ثلاثة آلاف إنكشاري، حسب ناصر الدين سعيدوني في «ورقات جزائرية». لكن هذه القوة لم تكن سوى نواة صغيرة خلال هذه الحملة العسكرية بعد أن التحق بها حوالي ثمانية آلاف فارس من القوات الشعبية القبلية المتحالفة مع الحكومة والمعروفة عادةً بـ «المْخَازْنِيَة»، أو قبائل «المَخْزَن»، بالإضافة إلى حوالي ثمانية آلاف مقاتل من قبائل زواوة القادمين من جرجرة. تقول الباحثة جميلة معاشي في «الانكشارية والمجتمع ببايلك قسنطينة»: «قوات زواوة، حسب هذه الباحثة الجزائرية في «الانكشارية والمجتمع ببايلك قسنطينة» كانت تُستَدعى أكثر في إخماد التمردات وصد الاعتداءات الخارجية على البلاد «وليس لجباية الضرائب» على حد تعبيرها.
تقول المصادر التاريخية أن صد الهجوم الإسباني الكبير على مدينة الجزائر بقيادة الكونت أوريلي (O’Reilly)سنة 1775م تمّ بنحو مائة ألف مقاتل جزائري، فيما نعرف أيضا أن القوات الانكشارية لم تكن يتجاوز عددها العُشر (10/1) من هؤلاء المجاهدين الذين جاؤوا من كل أنحاء البلاد، بما فيها الصحراء البعيدة…
وما لا يعرفه الكثير من الجزائريين هو أن هذه السياسة الحكومية التي تعتمد على القوات الشعبية القبلية الحليفة لم تكن اختراعا عثمانيا أو (انكشاريا/جزائريا)، بل كان معمولا بها منذ قرون طويلة سابقة للحقبة العثمانية، وكان شائعا على الأقل منذ عهد الزيانيين والحفصيين، يقول ناصر الدين سعيدوني في «ورقات جزائرية: «حتى أن هذه القبائل الحليفة كانت تجرد الحملات العسكرية لجمع الضرائب في المناطق الخاضعة لها دون الرجوع إلى الدولة الحاكمة وكأنهم حكام مستقلون» على حد تعبيره.
هذا ما تقوله الوقائع التاريخية والشهادات والبحوث، أما الباقي… فستفرزه الأيام ويلفظه التاريخ…