الـمأمــــول مـــن البنـــــوك الإسلاميـــــة بالجزائــــــــــر

د. موسى عبد اللاوي *
ينتظر من البنوك الإسلامية أن تقوم بدور فعّال في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية ببلدنا الجزائر، خاصة بعد صدور قانون 02/20 المؤرخ في 20 رجب 1441 الموافق 15 مارس2020، الذي يحدد العمليات البنكية المتعلقة بالصيرفة الإسلامية وقواعد ممارستها من طرف البنوك والمؤسسات المالية، ليس فقط اعتمادا على التمويل بالمشاركة في الربح والخسارة بدلا من الفائدة، بل أيضا من خلال مفاهيم صحيحة لوظيفة رأس المال في المجتمع، الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة في الإسلام، ولقد قطعت البنوك الإسلامية مرحلة أولية في سبيل إتمام هذا الدور رغم محدودية عددها ببلدنا- بنك البركة وبنك السلام وبعض الشبابيك التي تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في معاملاتها وهي تعد على الأصابع كبنك ترست الجزائر وبنك الخليج…، مقارنة بالبنوك التقليدية الربوية التي ورثنا نظامها التمويلي من الاستدمار الفرنسي، والذي لم يحقق أهداف التنمية الاقتصادية، ولا لحماية أموال المودعين، ولا لطاعة الله -عز وجل – فيما أمر به من الانتهاء من الربا.
وتعتبر البنوك الإسلامية؛ مؤسسات مصرفية لا تتعامل بالفائدة (الربا) أخذا أو عطاء، مع الالتزام في نواحي نشاطها ومعاملاتها المختلفة بقواعد الشريعة الإسلامية، وتتلقى من العملاء نقودهم دون أي التزام أو تعهد مباشر أو غير مباشر بإعطاء عائد ثابت على ودائعهم، مع ضمان رد الأصل لهم عند الطلب، وحينما تستخدم ما لديها من موارد نقدية في أنشطة استثمارية أو تجارية فإنّه لا تقرض ولا تداين أحدًا مع اشتراط الفائدة، وإنمّا تقوم بتمويل للنشاط على أساس المشاركة فيما يتحقق من ربح، فإذا تحققت خسارة فإنّها تتحملها مع أصحاب النشاط الذين قامت بتمويلهم، كما تلتزم البنوك الإسلامية بعدم الاستثمار أو تمويل أي أنشطة مخالفة للشريعة الإسلامية، والالتزام بمقاصد الشريعة في ابتغاء مصلحة المجتمع الإسلامي والإنساني، ومن ثمّ العمل على توجيه ما لديها من موارد مالية إلى أفضل الاستخدامات الممكنة، وبالإضافة إلى ذلك فإن القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية تستلزم تقديم النصيحة للعملاء والتشاور معهم لتحقيق مصالحهم في إطار المصلحة الاجتماعية.
من خلال صدور القانون الجديد 02/20 الذي يسمح بفتح البنوك الإسلامية بالجزائر تعول الحكومة على هذه المؤسسات المالية الإسلامية لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والبشرية من الآليات التالية:
1/ المؤسسة المصرفية الإسلامية تعتبر أكثر قدرة على تجميع الأرصدة النقدية القابلة للاستثمار لطبيعة الشعب الجزائري الذي يعتبر تطبيق الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية جزء لا يتجزأ من عقيدته، التي جاهد من أجلها لقرون تحت راية الله أكبر، فإن آلية المشاركة بالبنوك الإسلامية التي تعمل بها تعني أنها ليست بنوك وسيطة بين المدخرين كفريق مستقل، والمستثمرين كفريق آخر، كما هو الحال في البنوك الربوية التقليدية، وإنمّا هي مؤسسة وسيطة بين أصحاب المدخرات الذين يريدون استثمار أموالهم بالمشاركة ورجال الأعمال الذين يريدون تمويلا لمشروعاتهم الاستثمارية على هذا الأساس، وبينما ينتظر المدخرون من البنوك الربوية فائدة على أموالهم فإن المدخرين المستثمرين ينتظرون عائدا على أموالهم نتيجة استثمارها، والعائد على الاستثمار «ربح» يتحدد مقداره تبعا لنجاح المشروع الاستثماري، ومن ثم فهو دخل يرتبط ارتباطا مباشرا بالنشاط الإنتاجي، وهناك بالطبع احتمالات تحيط بهذا العائد؛ فقد يكون منخفضا وقد يكون مرتفعا، ومن المنطقي أن أي شخص يريد استثمار مدخراته سوف يجد حافزا أكبر كلما توقع ربحا أكبر، وهذا أمر لا يتحقق في إطار نظام الفائدة حيث إن هناك قيودا عديدة على ارتفاع سعر الفائدة في السوق المصرفية… قيودا يضعها البنك المركزي لأهداف اقتصادية كلية وقيودا أخرى تمارسها البنوك نفسها لأغراض السياسات الائتمانية والمقدرة الوفائية، ومن هنا فإن معدلات الربحية في إطار آليات المشاركة بالبنوك الإسلامية تتغير بمرونة أكبر بكثير من أسعار الفائدة في إطار آليات التمويل بالدين، ومن ثم فإنها أكثر قدرة على جذب المدخرات لأغراض الاستثمار.
2/ كما تعتبر البنوك الإسلامية أكثر قدرة على توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والجزائر كبلد نامي يشير إلى أن اختلالات هيكلية شائعة في اقتصاده، فالموارد الاقتصادية موزعة بين الأنشطة الاقتصادية على نحو بعيد عن الواقع الأمثل بسبب الاختلالات الشائعة في آليات السوق والأسعار، وبسبب حصول كبار رجال الأعمال والأثرياء على معظم الموارد التمويلية لدى البنوك، وبسبب أنماط الاستهلاك غير الرشيدة ولا نتوقع أبدا لهذه الاختلالات أن تختفي من خلال أنظمة التمويل القائمة على نظام الفائدة الربوية، أما النظام الإسلامي الذي يعتمد على التمويل بالمشاركة فيمكن أن يؤدي دورا مهما في هذا الصدد إذا أتيحت له الفرصة كاملة.
3/ توزع البنوك الإسلامية الموارد المالية على أسس الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية، التي تسهم بشكل مباشر في توزيع الدخل القومي على نحو عادل خلال عملية التنمية، لأن المؤسسات المصرفية الربوية لا تبالي بقضية عدالة التنمية الاقتصادية، لأنّ نظام التمويل بالمشاركة الذي يمارس من خلال نظام مصرفي إسلامي لا يعتمد على الملاءة المالية لأصحاب المشروعات الاستثمارية، وإن جاز أخذ هذه في الاعتبار، وإنما يعتمد أساسا على جدوى المشروع الاقتصادي والثقة في جدية صاحبه وخبرته.
4/ تشجع البنوك الإسلامية السلوك الايجابي الدافع لعملية التنمية على عكس المؤسسة المصرفية الربوية، فقد ثبت أن نظام الفائدة يلعب دورا سيئا في تشجيع السلوك السلبي، ومن ثم في توزيع الدخل على نحو غير عادل بين الكسالى من جهة. فالبنوك الإسلامية واجب شرعي وضرورة اجتماعية وحتمية اقتصادية ملحة لتصحيح الأوضاع، وقيام البنوك الإسلامية واعتمادها على المشاركة كأحد القواعد الإسلامية لا يعني فقط إسهاما ايجابيا في تحقيق عدالة توزيع الدخل بين من يملكون فوائض نقدية قابلة للاستثمار ومن يستثمرونها، وإنمّا أيضا في تنمية السلوك الإيجابي للأفراد الذي يلزم حتما لتنمية اقتصادية صحيحة؛ ذلك لأن المشاركة حينما تؤخذ بحقها تعني أن اثنين يفكران معا في القرار ويتحملان معا مسئوليته، وليس واحدا فقط هو الذي يفكر ويتحمل المسئولية أو بعبارة أخرى إن آليات المشاركة تدفع الجميع للمساهمة في النشاط الاقتصادي، وذلك مقابل آليات النظام الربوي الذي يقبل الغياب الكامل أو النوم لنسبة من أبناء المجتمع، لا لشيء إلا لأنهم ادخروا أموالا أو ورثوا ثروة من الغير أو ربما اكتسبوها بطرق غير شرعية يمثل أحد العوامل الخطيرة في الحد من النمو الاقتصادي.
فالبنوك الإسلامية لها دور فعال ومهم في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية، ويتضح ذلك من خلال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية الإسلامية، هذه الأحكام التي تلزمها بتحري الحلال والابتعاد عن الحرام، وهي الأحكام التي تنسجم مع عواطف المجتمع الجزائري المسلم.
إنّ المشروع الاقتصادي التنموي الفعال للمجتمع الجزائري المسلم، يجب أن ينبع من المعتقدات الدينية والقيم الباديسية النوفمبرية التي يؤمن بها المجتمع الجزائري، ومن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الفعلية للبلاد، والمشاكل والقيود التي تواجهه، فإنه في ضوء الأوضاع الاقتصادية العالمية ومع أثار وباء فيروس كورونا، فإن صيغ المعاملات المالية للمصارف الإسلامية، تعتبر أنسب الصيغ أو الأدوات التي يمكن توظيفها لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية، إذا كان للبنوك الإسلامية الدور الأساس والفعال وليس مجرد دور ثانوي أو هامشي في إحداث التنمية وتحقيقها والإسراع بها.
فالبنوك الإسلامية بحكم نظامها العام تعمل في مجالات متعددة الأبعاد، إذ أنّها لا تكتفي بالمشاركة في النشاط الاقتصادي والاستثماري بصفته واجب شرعي وخدمة وطنية وحتمية اجتماعية وضرورة اقتصادية، وإنمّا تتجاوز كل هذه المنطلقات في مجال عملها إلى مهام أخرى، كتعريف العملاء بالرؤية الإسلامية المميزة لأوجه النشاطات الاقتصادية المختلفة والمميزة عن غيرها من المعاملات المالية الربوية، وكتصميم نماذج للمجتمعات التي تعمل فيها لتنظيم تنميتها عن طريق الاعتماد على الله مع تقديم الأسباب وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجال المعاملات المالية، واحترام القيم الأخلاقية الحميدة، الأمر الذي يمثل المهاد الفكري الذي يهيئ الأرضية الضرورية والرصينة لتحقيق التنمية، وهو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية، لأن المال في الإسلام مال الله والإنسان مستخلف فيه ومأمور بتدويره، فالمال نعمة من نِعَم الله على عباده. ونِعَم الله كلها تستحق منا التقدير والاحترام والعناية والرعاية، وقد أجمع العلماء على أن «حفظ المال» هو أحد الضروريات الخمس الكبرى، التي عليها مدار الشريعة ومقاصدِها. وحفظ هذه الضروريات -كما قرره علماؤنا – يكون من جانب الوجود، ويكون من جانب العدم. قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يُقِيم أركانها ويُثَبِّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم».
والذي يُقِيم أركان المال ويُثَبِّت قواعده، هو اتخاذ الأسباب لتنميته وحسن تدبيره. ومن أهم شروط ذلك ووسائلِه: الادخارُ والاستثمار، أو الاستثمار المنطوي على الادخار.
فالادخار الرشيد للمال لا ينفك عن استثماره وتنميته، ولذلك فإن الادخار يجب أن يكون قرينَ الاستثمار وحليفَه، أما الادخار العقيم غير المنتج، فهو مجرد تجميد للمال وتعطيلٍ لوظائفه التنموية والاجتماعية، بل هو إضاعة له، لأن التجميد هو نوع من التضييع، وقد نهي النّبي -صلى الله عليه وسلم – عن إضاعة المال ومن أسباب إضاعته عدم استثماره، كما في الصحيحين وغيرهما.
والمقصود بالاستثمار في المنهج الإسلامي هو تشغيل المال لزيادته؛ عن طريق زيادة الإنتاج والاستزادة من نعم الله، وذلك لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية.
وقد حض الرسول -صلى الله عليه وسلم – على الاستثمار؛ وفقاً لهذا المفهوم، يقول: عليه الصلاة والسلام فيما يخص عدم تبديد الطاقات الإنتاجية «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» رواه مسلم. وفي الأصول الثابتة قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَاعَ دَارًا فَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي مِثْلِهِا لم يُبَارَكَ لَهُ فِيها» رواه ابن ماجه وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني ومنها أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم -: «أياك والحلوب» رواه مسلم
فالهدف من الاستثمار في ديننا ليس مجرد تحقيق الربح؛ ولكن الهدف هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالمجتمعات الإسلامية والإنسانية جمعاء.