أقلام القراء

من دقائق الصناعة الحديثية(2)/ د. محمد عبد النبي

أخرج الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر].

أوردنا هذا الحديث في الحلقة الماضية، وذكرنا بأن الإمام مسلم انفرد بإخراجه، أي إن البخاري أعرض عنه؟

فهل إعراض البخاري متعلق بشروطه في الإخراج، وانتقائه الشديد للأحاديث؟ وهل رواة هذا الحديث- مع الخلاف في الرفع والوقف- هما السبب في عدم إخراجه له؟ لا نستبعد أن يكون الأمر كذلك، وهو مسلك كثير من الأئمة في تفسير صنيع البخاري حين لا يُخرج أحاديث انفرد بإخراجها الإمام مسلم! غير أني لا أستبعد أيضا أن يكون للأمر ملحظ آخر ينضم إلى ما سبق، وقد يكون البخاري اقتصر عليه وحده! إذ الحديث الذي ينزل عن شروط البخاري لا تُسلب عنه الصحة في حدها الأدنى، وقد يعتريه بعض الضعف، ومثل هذه الأحاديث- وغيرها من الضعيف أيضا- قد يخرجها البخاري في الأدب المفرد، لكنه لم يخرج هذا الحديث أيضا في هذا الكتاب، بالرغم من أهميته في باب الزهد والرقائق.

ويبدو أن الشُّراح قد اتفقوا على معنى وحيد لمتن هذا الحديث، قال القاضي عياض في إكمال المعلم(8/511): “معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها، وعلمه بما أعد له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر: أنه عند موته وعرضه عليه، فحبسه عنه في الحياة الدنيا، وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا فاء فارقها واستراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أُعد له واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته،. والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب، وتنكيده بالعوائق، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم، وعذاب النار، وشقاء الأبد”.

وقال الإمام النووي في شرحه(18/93): “معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا، مع قلته وتكديره بالمنغِّصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد”.

وهذا المعنى تواجهه اعتراضات واقعية، فمن ذلك أن واقع الحال متقلب في الدنيا بين المؤمن والكافر، فكثير من المسلمين يعيشون عيشة رغيدة في دنياهم، والدولة الإسلامية عمّرت قرونا في التقدّم والازدهار، في مقابل أمم كافرة، عانوا من شظف العيش طويلا، وعلى مستوى الأفراد فإن بعضهم أوتي من المال في العصر الحاضر ما لم يؤتَه قارون، وهو يعيش به في فسوق ومجون يحسده عليه الكفار، فهل هؤلاء ينطبق عليهم كلام الإمام النووي، وينتظرهم في الآخرة ما يُنسيهم في مجونهم وفسوقهم!؟

وهناك في الطرف الآخر كفار يُقضّون حياتهم كلها في الشقاء، ولا يحسّون بأدنى قدر من السعادة أو الهناء، ولذلك وقع استشكال لدى بعض الشُّراح في هذا الحديث؛ قال الإمام الصنعاني في التحبير(4/413): “قد أُورد هنا سؤال معروف وهو أنه: كم من كافر في بلاء وعناء وحاجة وفاقة وذلّ وصغار، فكيف تكون الدنيا جنته؟ وكم من مؤمن في سعة وعافية وعز ونعمة، فكيف يكون في سجن..؟”،ثم أجاب بما ذكره القاضي عياض والنووي!

وهناك استشكال آخر يتعلق ببعض ما ورد في كتاب الله تعالى، فابن عرفة في تفسيره لقوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} قال(2/353): “فإن قلت: كيف يُفهم: يمتع المؤمن متاعا حسنا مع ما ورد أن “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وراحته”، فالجواب: إما بأن ما ناله كل فريق منهما في الدنيا بالنسبة إلى ما يناله في الآخرة ليس بشيء، الثاني: أن [يمتع] المؤمن موصوف بكونه حسنا بخلاف الكافر”!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com