ثلاثية الإسلام للإخراج الحضاري (4) مكــــة جغـــرافــيـــة الهدى للعالـمين
د.كدير مراد /
وإن أردنا معرفة مكانة مكة وارتباطها بالمهمة الربانية الثلاثية استراتيجيا فدعونا نقفز قليلا للحظات التمكين للفكرة الحضارية التي ولدت في مكة وأشعت في المدينة وقادت البشرية بعد بيت المقدس، فلننظر لحديث ربعي بن عامر مع رستم عظيم الفرس، لم يكن يرى رستم قائد الفرس المنهزم أمام جيش الإسلام الفتي السر وراء تمكن العرب القادمين من الجزيرة العربية على دولة ممتدة في التاريخ مثل دولة فارس، بعدما كانت العرب كلها تدين لحكم فارس من اليمن وعمان عبر امتداد الزمن إلى البحرين (الخليج العربي كما يسمى الان) مرورا عبر قبائل نجد الكبرى وصولا إلى دولة المناذرة في الحيرة الموالية لحكم فارس. لم يكن يرى رستم الغارق وسط المدنية المادية كيف لمجموعة شبابية مؤمنة بمشروع عالمي حضاري أن تغلب.
سأل رستم الصحابي المغمور ربعي بن عامر رضي الله عنه عن سر الانبثاث والانبعاث للأمة الجديدة وعدم رضاها بقطرية الجزيرة العربية فأجاب ربعي بن عامر بتربية رسول الله ووضوح الرؤية الذي أرساه في عالم تصورات الصحابة رضوان الله عليهم : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الاديان إلى عدل الاسلام، من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والاخرة).
لقد كانت مكة جغرافية إنطلاق الغاية الوجودية العليا افراد الله بالعبودية وتمثلا أكبر من تمثلات العبودية لله عزوجل عبر المسجد الحرام، فكانت الانطلاق لتمكين منهج الله تعالى كمنهج قائد للبشرية وكانت البداية لإخراج العباد أجمع من عبادتهم لعالم المعبودات لعبادة الله تعالى، فكانت القيمة الرامزة لغاية تحقيق العبودية لله الهدى للعالمين، هداية تنطلق من المسجد الحرام للبشرية أجمع، فمكة المكرمة بمركزيتها الجغرافية والعقدية والدينية مهوى للأفئدة من كل فج عبر الحج وبوصلة العبادة عبر قبلة الصلاة. ولعل الفترة المكية من الدعوة النبوية انطلقت من تحقيق غاية العبودية لله وارساء قيمة الهدى فامتازت الفترة بالخطاب العقدي الهادم لعالم تصورات الشرك وعبادة المعبودات، وعمل القران على نقل قريش والعرب كفئة البدأ بالدعوة من التفكير البدائي بعبادة عالم الجماد إلى رحابة عبادة خالق السموات والأرض عبر الخطاب العقلي الفكري العميق الهادف لترسيخ الايمان وكسر اركان الشرك. أصبحت مكة بعدها منطلقا لسيادة الهدى في الجزيرة العربية ودخولها أفواجا أفواجا في الاسلام بعد فتح مكة وقاعدة للانطلاق نحو رحابة الدعوة العالمية ونحو التدافع مع المراكز الحضارية الكبرى ومنافستها بعد رسوخ الإيمان عند فئة البدأ وتوهج جغرافية الانطلاق وانتقالها نحو العبودية لله.
كانت مكة وستبقى بوصلة الغاية الوجودية للبشرية تحقيق العبودية لله ومقياسا لعلاقة البشر بالله ومقياسا للتمييز بين الهدى والظلال ومنطلقا للإخراج الحضاري للبشرية من عبودية الافكار الوضعية الانسانية إلى نور عبادة خالق الإنسان والأكوان، وستبقى كما كانت الهدى للعالمين من الضلال البشري والزيغ الفكري والتسحر الروحي والضمور الاجتماعي وبداية للظهور الحضاري لبلوغ السمو البشري والازدهار الروحي والسداد الفكري والفاعلية الاجتماعية وكذلك كانت رسالة رسول الله « (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
والله أعلم بمراده.