دّبَنا كورونا فأحسنَ تأديبنا

عبد العزيز كحيل /
هو جنديّ من جنود الله يمضي أمره سبحانه وتعالى من جهة، وهو معلّم حاذق فعّال من جهة أخرى، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير، نتعلم منهم كما تعلم ابن آدم الأول من الغراب… في الحالتين يتعلم الإنسان الظالم لنفسه من طائر تزدريه الفطرة ومن فيروس مجهري يزرع الرعب ويزهق الأرواح.
«لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم»… نزلت هذه الآية تعقيبا على حادثة الإفك التي تحصرها النّظرة السطحية في الشرّ، لكنّها حادثة تجاوزت الشرّ النّفسي إلى تلقين دروس نفسية وعملية ميدانية للمؤمنين، أولها أنّ كلّ شرٍّ يستصحب نصيبا من الخير ولا بد… وهذا ما حدث مع كورونا بالضبط، ولولا حجاب المعاصرة لأبصرنا الفوائد الجانبية للوباء –عجل الله رفعه عنا- بأعيننا وللمسناها بأيدينا، وكلّ ما يأتي من الله تعالى خير، والحمد لله.
أغلق كورونا المساجد – وهي نحو 18000 في الجزائر ضاق بها العلمانيون ذرعا وما فتئوا يهمزونها همزا ويلمزونها لمزا ويحاولون صد النّاس عنها -فتحوّلت ملايين البيوت إلى مساجد تقام فيها صلاة الجماعة ويُذكر فيها اسم الله كثيرا ويُتلى فيها القرآن بالليل والنهار وتنبعث منها أدعية الشيوخ والعجائز والأطفال تستمطر رحمة الله وعافيته.
أعاد المرأة إلى مهمتها الأولى: زوجة وأمّا ومدبرة للبيت، تقضي أوقاتها مع زوجها وأبنائها بدل الشارع و»الزملاء»…عادت إلى فطرتها ومهمتها النبيلة: «وقرن في بيوتكن»، بعد أن عقدتها الثقافة المستوردة من المكوث في البيت وأقنعتها أن ذلك انتقاص منها وإهدار لكرامتها وأنها لا يمكن أن تثبت ذاتها إلا إذا تمردت على الفطرة وعلى الرجل –الأب والزوج – وهجرت الأمومة والمطبخ وحسن التبعل لزوجها، فأصبحت حياتها تتمحور وتدور حول الشارع والمؤسسة والدكان، أما البيت فهو مكان لا تهفو إليه وإنما تأوي إليه مكرهة متضايقة… ألم يجعلها كورونا تتذوق حلاوة الحياة الزوجية وما فيها من مودة ورحمة، والاتصال المباشر الدائم بالأبناء، تفرح بهم ويفرحون بها، والالتزام بلباس الحشمة التقوى بدل التبرج الذي يلازم المرأة «المعاصرة»؟ وفي نفس السياق تهتم ببناتها بصفة خاصة، تدربهن على الأعمال المنزلية وتعدهنّ ليكنّ سيدات ناجحات.
أعاد الأبناء إلى محضنهم الطبيعي-البيت- بعد أن كانوا يعيشون في الشارع معظم الوقت، لديهم أم متفرغة وأب يرونه أكثر من السابق، بل أقول أصبحوا يعرفون والديهم معرفة حقيقية وينهلون من عاطفتهما ويستمتعون بالتفاعل الأسري وما فيه من ضحك وتشاكس ولعب ومشكلات بريئة…وهذه هي الحياة الطبيعية الصحية.
أعاد لنا كورونا لذّة الطعام المنزلي والكسرة بدل الوجبات السريعة المضرّة بالصحة التي أضحت التغذية المعتادة لكثير من الرجال والنّساء والبيوت رغم تحذير المختصين المتكرر من أضرارها الكثيرة، وقد لاحظنا جميعا تناقص حالات العرض على الأطباء في هذه الفترة خاصة حالات أمراض المعدة والكولون ونحوها… إذًا قد يصيب الفيروس بعضنا لكنه كان سبباً في تعافي الكثيرين من أمراضهم المعتادة وعلّمهم كيف يحافظون على صحتهم.
أثبت لنا أننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية بلا كرة قدم ولا سهرات ليلية ولا مهرجانات «ثقافية»- أي الغناء الفاحش والرقص المختلط والهَوس الغربي- وأن غياب هذه المظاهر لا يؤثر سلبا على الأفراد ولا على الأمة بل على عكس ذلك زال التلوث المعنوي –كما زال التلوث البيئي – وصمنا رمضان بعيداً عما كان يفسده ممّا يُسمى إحياء ليالي رمضان، ولم يعبأ أحد بغياب «الفنانين» والفكاهيين واللاعبين الذين يبددون ثروات الأمة في غير طائل.
كما أثبت لنا أن المعلم قبل اللاعب، والباحث قبل الممثل، والطبيب قبل المطرب، والممرض قبل الرسام…هل أحسّ أحدٌ منكم بفراغ تركه «الفنانون» أو اللاعبون «العالميون»؟ طيلة هذه المدة هل يتابع النّاس أخبار جديد الغناء والكرة والأفلام أم أخبار البحث عن اللقاح والعلاج؟ أخيرا، أرأيتم كيف أحيا كورونا في الأمة روح التضامن والإحساس بالغير والتعاون لمساعدة المحتاجين؟ هبّة شبابية منقطعة النظير لإسعاف ومساعدة المعوزين خاصة الفقراء الجدد الذين فقدوا مصادر دخلهم بسبب الوباء… شباب، كهول،جامعيون، طلبة، موظفون متوقفون عن العمل هبوا لنجدة المتضررين، طافوا على البيوت والمداشر والأرياف فأطعموا وكسوا وعالجوا ورسموا البسمة على الشفاه، النساء يخطن الكمامات لتوزيعها على الطواقم الطيبة والحماية المدنية وغيرها، الجمعيات الكبرى انخرطت في عمل خيري إغاثي مشهود، على رأسها جمعية العلماء وجمعية الإرشاد والإصلاح، والحمد لله.
كلّ هذا بالإضافة إلى انعكاسات كورونا الإيجابية على البيئة وطبقة الأوزون وتراجع نسبة التلوث وتعافي الهواء والمحيطات والأنهار والغابات.
نسأل الله أن يرفع عنا الوباء وأن يجعلنا ممن يعون الدروس ويحفظونها، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.