المصالحة الفلسطينية…فريضة شرعية وضرورة وطنية/ بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة
يستبشر أبناء شعبنا الفلسطيني داخل الوطن وفي كافة أماكن تواجده خيراً بالاتفاق الفلسطيني الأخير الذي عُقد في مدينة القاهرة بجمهورية مصر العربية، راجين من الله العليّ القدير أن يَمُنَّ علينا بجمع شملنا، وإصلاح ذات بيننا، وتوحيد كلمتنا، فليس هناك بعد تقوى الله – عَزَّ وجَلَّ- أنفع لنا من الوحدة والمحبة ورص الصفوف، وليس هناك أشدّ ضرراً علينا من الفرقة والاختلاف، وبهذه المناسبة فإننا نتوجه إلى أشقائنا الأعزاء في جمهورية مصر العربية بجزيل الشكر والتقدير على رعايتهم وحرصهم على إتمام المصالحة الفلسطينية، فجزاهم الله خير الجزاء.
إن الشعب الفلسطيني المرابط يدعم هذا الاتفاق ويتمنى له النجاح والتوفيق؛ لأن قوتنا في وحدتنا، وإن ضعفنا في فرقتنا وتخاذلنا، وشعبنا الفلسطيني في أمسِّ الحاجة إلى الوحدة والمحبة، خصوصاً في هذه الظروف المصيرية والمنعطفات الخطيرة التي يَمُرُّ بها شعبنا وقضيتنا ومقدساتنا.
ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى الصلح والوحدة والتعاضد والتآلف، فقد جاءت الآيات الكريمة في القرآن الكريم تحثنا على ذلك، منها:
– قوله سبحانه وتعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }(1).
– وقوله سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(2).
– وقوله سبحانه وتعالى أيضاً:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(3).
كما حثَّت السنة النبوية الشريفة على ذلك في مواضع كثيرة، منها:
– قوله – صلى الله عليه وسلم – :” مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى “(4).
– وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضاً:” أَلا أُخْبرُكُمْ بأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ “(5).
كما سار الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – على نفس المنهج الإسلامي، فهذه وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عندما كتب له: ” الصُّلْح جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلالاً “.
وحدة المسلمين فريضة شرعية
إن وحدة المسلمين وتضامنهم عمل يمثل قطب الرَّحى، ويمثل طوق النجاة لسفينة المسلمين، فالمسلمون لن ترتفع لهم راية ولن يستقيم لهم أمرٌ ما لم يكونوا متضامنين مجتمعين على كلمة واحدة، فقد جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمة ممزقة مبعثرة فجمعها ووحَّد كلمتها، ثم جمع العرب على اختلاف أوطانهم وجعلهم أمة واحدة بعد أن كانت الحروب مستعرة بينهم وصهرهم جميعاً في بوتقة الإسلام، وجمع بين أبي بكر القرشي الأبيض وبلال الحبشي الأسود، وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جعلهم إخوة متحابين بعد أن كانوا أعداء متخاصمين، وأزال ما بين الأوس والخزرج من خلاف، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأصبح المسلمون بفضل الله كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والله سبحانه وتعالى يرشد إلى ذلك بقوله:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(6)، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (7) .
لقد حصل مرة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نشأت بين بعض الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- مشادَّة كلاميَّة سمع منها ارتفاع الصوت، فأخرجت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- يدها من الحجرة الطاهرة، وأخذت تقول لهم: إن نبيكم يكره التفرُّقَ، ثم تلت عليهم قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (8)، وتعني أن الخصام أساس الفرقة، والفرقة أساس البلاء، ولله دَرّ القائل :
كونــوا جميعاً يا بنيَّ إذا اعـترى
خطبٌ ولا تتفرقــــوا آحادا
تأبى العصى إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت آحادا
وقد ذكر أستاذنا الشيخ/ محمد الغزالي -رحمه الله- في كتابه خلق المسلم، أن المصلين اختلفوا في صلاة التراويح هل هي ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟، فقال بعضهم: بأنها ثماني ركعات، وقال آخرون: بأنها عشرون ركعة. وتعصَّب كلّ فريق لرأيه، وكادت أن تحدث فتنه، ثم اتفق الجميع على أن يستفتوا عالماً في هذه القضية فسألوه عن رأيه في الأمر، فنظر الشيخ بذكائه فعرف ما في نفوسهم، وهو أن كل طرف يريد كلمة منه، فقال الشيخ: الرأي أن يُغْلَق المسجد بعد صلاة العشاء (الفريضة) فلا تُصَلَّى فيه تراويح البتة، قالوا: ولماذا أيها الشيخ؟! قال: لأن صلاة التراويح نافلة (سُنّة)، ووحدة المسلمين فريضة، فلا بارك الله في سُنَّة هدمت فريضة.
يتراشقون… ولكن بالزهور
إن ديننا الإسلامي يحث على الوحدة والبعد عن الخلاف والاختلاف {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(9).
لقد اختلف الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين – في بعض الأمور، لكنهم كانوا يتراشقون بالزهور، فقد( ذكر أبو الليث السَّمَرقندي عن جرير أن عثمان بن عفان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنهما – كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: أَتَسُبُّني وقد شهدتُ بَدْراً ولم تَشهَد، وقد بايعتُ تحت الشجرة ولم تبايع، وقد كنتَ توَلَّى مع من تَولَّى يوم الجَمْع، يعني يوم أُحُد، فردَّ عليه عثمان، فقال: أما قولك: أنا شهدتُ بدرًا ولم تشهد، فإني لم أَغِب عن شيء شهده رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إلا أنَّ بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت مريضةً وكنت معها أُمَرِّضها، فضرب لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سهماً في سهام المسلمين، وأما بيعة الشّجرة، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعثني رَبيئَةً على المشركين بمكة – الرّبيئَةُ هو الناظر- فضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يمينه على شماله، فقال: “هذه لعثمان” فيمين رسول الله
– صلى الله عليه وسلم- وشماله خيرٌ لي من يميني وشمالي، وأما يوم الجَمْع، فقال الله تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ} فكنتُ فيمن عفا الله عنهم، فحج عثمانُ عبدَ الرحمن)(10).
عندما نقرأ هذا الحوار الجميل بين صحابيين جليلين من العشرة المبشرين بالجنة، فإننا نجد أن هذا الحوار لم يُفْسد للود قضية، لأن خلافهم ليس من أجل الدنيا، بل إنه يستهدف دائماً نصرة الحق، فكان أدبهما معاً سبيلاً إلى الحق في موضوع النقاش، وتبقى حاجة المسلمين في هذه الأيام متجددة إلى مثل هذا الحوار المبارك، والذي تواجه فيه الفكرة…الفكرة، حيث يُسْفر هذا الحوار في النهاية عن انتصار الحق ووحدة الأمة الإسلامية.
وفي هذه المناسبة، فإن شعبنا الفلسطيني يتساءل:
ألم يكفنا ما يفعله بنا المحتلون صباح مساء من قتل، واعتقال، وتدمير، وغير ذلك؟!
ألم يكفنا ما تتعرض له مقدساتنا وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك من اعتداءات متكررة؟!
ألم يكفنا ما يحدث لأشقائنا الفلسطينيين في بلاد المنافي والشتات؟!
أنسينا شهداءنا الأبطال الذين رَوَوْا بدمائهم ثرى هذا الوطن الغالي؟!
أنسينا أسرانا البواسل الذين ضحوا بحريتهم وما زالوا ينتظرون ساعة الفرج؟!
ألم يقل الشاعر: إن المصائب يجمعن المصابينا…؟!.
لذا علينا أن نوحِّد كلمتنا، ونرصَّ صفوفنا، ليتسنى لنا جميعاً التصدي للهجمة الإجرامية على المسجد الأقصى المبارك، قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، ولنعمل معاً وسوياً على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، إن شاء الله، وخروج جميع الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم إن شاء الله .
اللهم اجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وألف بين قلوبنا، وأزل الغــل من صدورنـا بكرمـك وفضـلك يا أكـرم الأكرميــن.
وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش:
1- سورة آل عمران الآية (103).
2- سورة الأنفال الآية (1).
3- سورة الحجرات الآية (10).
4- أخرجه مسلم.
5- أخرجه أبو داود.
6- سورة المؤمنون الآية (52).
7- سورة الأنبياء الآية (92).
8- سورة الأنعام الآية (159).
9- سورة هود آية (118/ 119).
10- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المجلد الثاني 4/244 .