في مقاعد المتفرجين…!!/حسن خليفة
من اليسير أن يسجّل المتابع للساحة الثقافية والدينية، بل للساحة الوطنية عامة هذا النوع من غياب المثقفين -على اختلاف وتنوّع في اختصاصاتهم- عن كثير مما يجري سياسيا، ثقافيا، اجتماعيا، دينيا، فكريا..الخ.
هذا الغياب الذي يمكن أن يُترجم كما لو كان نوعا من “الحياد” -وهو حياد غير إيجابي بطبيعة الحال- يتمثل في عدم الحضور كليا أو جزئيا في كل نشاط أو فعالية أو عمل أو أي شأن عام.
وبقطع النظر عن كون ذلك الحياد “حيادا ” إراديا ذاتيا، لأسباب مختلفة، أو هو أقرب إلى التحييد، بفعل عوامل وأسباب أيضا…، بقطع النظر عن ذلك فإن هذا الغياب أو الحياد أو التحييد أمر بالغ السوء وشديد الضرر على المجتمع وعلى الأمة بعد ذلك.
وقد صدق الشيخ الغزالي رحمة الله عليه الذي عبّر عن ذلك بطريقته الرائعة عندما جعل عنوان أحد كتبه “الغزو الثقافي يمتدّ في فراغنا”*.
إن الكثير مما يزحف ويمتد في حياتنا في شكل ظواهر سلبية وتيارات واتجاهات فكرية منحرفة وزائغة، وبالأخص منها ما له علاقة بالإساءة إلى ديننا وحضارتنا وتراثنا المضيء، ليس سوى امتداد في فراغنا، وضعفنا، وتقصيرنا، وكسلنا، وانهزامنا، وانقسامنا، وتشرذُمنا… وتمزّقنا،كمسلمين عامة بمختلف فئاتنا وفصائلنا وتوجّهاتنا، بما فينا من يُسموّن الوطنيون بمختلف أطيافهم.
إن معطيات الواقع تقول: إن هذه الشرائح هي الأكثرية الغالبة، وهي الطبقة الأكثر تمثيلا لنسيج المجتمع ولكن انكفاء نُخبها وسلبيتها وتقهقرها ونكوصها عن أداء واجباتها الأساسية دينيا وأخلاقيا وعلميا وقيميا هو الذي جعلها في”المؤخرة” أو على الأقل فلنقل جعلها “فئة” قليلة الأثر والتأثير. والداء في ذلك هو حيادها الذي اختارته كأفراد لا يريد الغالبية منهم المشاركة في أي شيء كان، أو بتعبير آخر لا يريد أن يكون حيث يجب أن يكون، ولا ما يجب أن يكون عليه. وأحد أهم الأدلة على ذلك، كما يعبّر عنه أحد الإخوة في استغراب حيث يقول:
“إنني لا أكاد أفهم كيف يرتضي إنسان آتاه الله علما وفكرا ومكانة اجتماعية ومنصبا وأتاح الله له راحة في المعاش والعمل والسكن، ولكنه يأنف أن يكون صاحب دور في المجتمع. إنه لا يسعى حتى أن يكون عضوا فاعلا وإنسانا إيجابيا في لجنة الحيّ الذي يسكن فيه، أو في لجنة المسجد، أو عضوا فاعلا في جمعية أولياء التلاميذ، أو مشاركا في أي تجمّع إنساني: مهني، أو دعوي، أو اجتماعي أو ثقافي، بمعنى آخر يرفض أن يؤدي أي دور تجاه مجتمعه، على الأقل من باب ردّ الجميل إلى هذا المجتمع الذي أوصله إلى ما هو عليه”.
نعم.. أتصور أن هذا التوصيف دقيق فيما أسميناه الحياد أو التحييد في عنوان هذه السطور..
كيف لإنسان متعلم بل مثقف واسع المعرفة صاحب مهنة رفيعة أن يكون بهذه السلبية البالغة المقيتة، ولا يكون لديه همّ من الهموم الإنسانية الجميلة التي تدفعه ليكافح من أجل مبادئه ودينه ووطنه وخدمة مجتمعه.
أتصوّر أن أعداد هؤلاء بالآلا ف إن لم يكونوا بعشرات ومئات الآلاف، وحيادهم بهذه الطريقة خسارة جسيمة للمجتمع في رقيّه وسعيه نحو النهضة والإقلاع.
كيف أمكن لهؤلاء أن “يرتاحوا” وهم يرون كل هذه الحرائق مشتعلة في جسد الوطن وفي نسيج المجتمع: أسرة، وتربية، وشبابا، وصحة، و….كيف؟ ويظهرون كما لو كان الأمر لا يهمّهم؛ وإن فعلوا شيئا فإنما هو النقد.. والمزيد من النقد. أي أنهم في أحسن الأحوال “في مقاعد المتفرجين” كما يُقال.
إن حياد الطبقات المثقفة، من أي نوع وفي أي مهنة كانت، هو الداء الوبيل الذي يضرب المجتمعات في الصميم، وهو أيضا المرض القاتل الذي يضرب الدعوات في المقاتل. وإن إبطال الفعل لدى هؤلاء و”قتل” الإيجابية والحركية فيهم، ومنعهم من الانخراط في حركة التغيير والنهوض هو أكبر القيود وأشد المعوّقات في طريق الإشعاع الحضاري لأي مجتمع وأمة. تسألني لكن كيف ولماذا؟ الجواب يحتاج إلى تظافر الجهود واطلاق النقاش المنهجي لهذا الإشكال القاسي.
- أحد الكتب الهامة للشيخ الغزالي طُبع مرات متعددة في الجزائر وفي مختلف الدول العربية