لماذا فشلت انتفاضة أكتوبر 1988 في تحقيق التحول الديمقراطي؟( 1) /عبد الحميد عبدوس

مرت 29 سنة على أحداث 5 أكتوبر 1988 التي أشعلت انتفاضة شعبية فتحت الباب لتحول ديمقراطي سريع وخصب، ولكنه مسار اجهض تحت ضغط الأحداث ودخول الجزائر في نفق أزمة متعددة الوجوه والابعاد سيطرت على أجوائها عاصفة من العنف الجنوني والتقتيل المروع، بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية، وتوقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992.
وبالعودة إلى أحداث أكتوبر، فإن ما كان يبدو في البداية ” شغب أطفال” حسب تصريحات بعض المسؤولين الجزائريين في سنة 1988، تحول بسرعة، مع انفلات الأمور، إلى زلزال سياسي كاد يطيح باركان النظام الذي بنته الطبقة الحاكمة في الجزائر بعد استرجاع الاستقلال الوطني في جويليه 1962، ولم يجد النظام الجزائري من جواب لمطالب انتفاضة الشباب في الخامس أكتوبر1988 سوى إعلان حالة الحصار التي استمرت إلى غاية العاشر اكتوبر، ووصل عدد ضحايا الانتفاضة إلى 169حسب الإحصائيات الرسمية، واكثر من 500 قتيل حسب المعارضة.
وإذا كانت انتفاضة الشباب قد سكنت في 10 أكتوبر 1988 بعد خطاب الرئيس الشاذلي بن جديد الذي تبنى مسؤولية الاحداث بقوله “أتحمّل مسؤولية ما جرى وأتأسّف لانزلاق الوضع إلى مستنقع الدم، ولم يكن أمامي غير استدعاء الجيش للحفاظ على أمن البلاد ومؤسسات الدولة”، ووعد الشعب الجزائري في الخطاب نفسه بإدخال إصلاحات على النظام السياسي، غير أن الجدل حول حقيقة ما جرى في تلك الفترة القصيرة والعصيبة من حياة الجزائر، لم يتوقف حتى الآن.
وقبل سنتين، دعا المسؤول السابق في جهاز الشرطة، خالد زياري، في منشور على موقع التواصل الاجتماعي إلى محاكمة المسؤول العسكري عن حالة الحصار آنذاك، الجنرال خالد نزار بوصفه مسؤولا عن الدماء التي سالت في انتفاضة أكتوبر.
أما الجنرال خالد نزار، وزير الدفاع الاسبق، فقد تكلم كثيرا عن أحداث اكتوبر 1988، وقدم من جانبه روايته عما وقع، متهما أحد مسؤوليه المباشرين آنذاك دون ذكره بالاسم (وهو قائد الأركان الأسبق اللواء عبد الله بلهوشات) بأنه اقترح أن تقوم طائرات هليكوبتر بقصف المتظاهرين. ولم يكتف الجنرال نزار عن تقديم اللواء عبد الله بلهوشات كنموذج للميول القمعية للضباط السامين في الجيش، ولكنه ادلى بتصريحات لوسائل الإعلام قال فيها إنه قام بتحريات شخصية عقب أحداث أكتوبر 1988، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن من قام بتعذيب بعض المواطنين يومها هو الجنرال محمد بتشين الذي كان مسؤولا بالأمن الرئاسي، وأما عن مسؤوليته الشخصية فقد قال الجنرال خالد نزار: “أنا لا أتهرب من مسؤولياتي فأنا رجل عسكري وقمت بواجبي”.
وما زالت الخلافات والتأويلات مطروحة عن سبب اندلاع انتفاضة أكتوبر 1988، فهناك من يرى أن تحريك وتوجيه الأحداث كان متحكما فيه من طرف جناح من اجنحة النظام الحاكم، او على الأصح الجناح الليبرالي، صاحب النفوذ الكبير في مؤسسة الرئاسة، الذي كان يريد تغيير النهج الاقتصادي، وتحقيق انفتاح صريح على الغرب، وخصوصا فرنسا المحتل القديم التي ظلت محتفظة بنفوذ ثقافي وسياسي كبير في جزائر ما بعد الاستقلال، والولايات المتحدة الامريكية التي زارها الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد في سنة 1985، وبعد عودته من تلك الزيارة قال لأعضاء اللجنة المركزية ـ القيادة السياسية لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم في البلادـ إنه لم يعد مقتنعا بالخيار الاشتراكي الذي كان مدرجا في الدستور الجزائري آنذاك كـ”خيار لا رجعة فيه” وهذه القناعة ترسخت لدى الجناح الليبرالي اكثر بعد انهيار أسعار البترول في سنة 1986. لقد صرح الجنرال خالد نزار بأن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد كشف لضباط الجيش المعينين في اللجنة المركزية للافلان قبل أحداث أكتوبر عن رغبته في تأسيس حزب جديد منافس لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم والوحيد في تلك الفترة.
ولعل ما يرجح تورط النظام في تحريك وتوجيه احداث الخامس أكتوبر1988 هو ظهور تلك السيارات المجهولة الهوية التي نسبها البعض لأجهزة الأمن، والتي كانت تطلق الرصاص على مسيرات المحتجين وتزيد بذلك التصرف الشباب غضبا والانتفاضة اشتعالا. وقد استغل الجناح الليبرالي أحداث أكتوبر للتخلص من رموز الجناح المحافظ صاحب النفوذ في جهاز حزب جبهة التحرير الوطني، المؤيد للخيار الاشتراكي والمعارض للانفتاح الليبرالي، وأصبح الشارع رهان الصراع بين الحزب والرئاسة. حيث تم إبعاد الراحل محمد الشريف مساعدية، مسؤول الأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان يعتبر –نظريا- بمثابة الرجل الثاني في البلاد.
وهناك من يعتبر ان انتفاضة الخامس اكتوبر كانت تعبيرا صادقا عن الغضب الشعبي على أوضاع التدهور المعيشي للطبقات الشعبية، وتزايد التفاوت الطبقي، وتفاقم الكبت السياسي، والغلق الإعلامي، والفساد الإداري، والاختلاس المالي الذي وجد تعبيره الإعلامي في قضية نهب 26 مليار دولار التي فجرها الوزير الأول الاسبق الدكتور عبد الحميد ابراهيمي.
ومهما يكن فلقد فتحت احداث الخامس أكتوبر قوسا ديمقراطيا مفعم بالآمال والتوترات في الجزائر وانفجرت في بضعة شهور الساحة السياسية والإعلامية والنقابية والجمعوية في مشهد ديمقراطي وتعددي بدا أنه يتجاوز كل التوقعات والضوابط… وتحولت الحساسيات السياسية إلى أحزاب متصارعة واغتنت الساحة الإعلامية بعشرات العناوين الصحفية وانفتحت القناة التلفزيونية الرسمية على نقاشات وحوارات معبرة عن مختلف الحساسيات والقناعات، وفتح المجال لأول مرة بعد استعادة الاستقلال أمام مسار انتخابي تعددي افرز سيطرة التيار الإسلامي بزعامة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على المشهد السياسي الجزائري. حتى وإن كان الجنرال المتقاعد حسين بن حديد قائد الناحية العسكرية الثالثة سابقا، والمستشار العسكري لوزير الدفاع السابق اليمين زروال الذي من المتوقع أن يمثل أمام المحكمة في 23 اكتوبر الجاري بسبب تصريحاته المنتقدة للنظام الحاكم اعتبر أن: “اكتساح جبهة الإنقاذ المحظورة لانتخابات 1991 ما كان ليتحقق، لولا الدعم الخفي من إدارة الجنرالات الفاعلين في المؤسسة العسكرية والأمنية آنذاك، الذين كانوا يدفعون بالرئيس الراحل الشاذلي بن جديد للغرق في مستنقع جبهة الإنقاذ، من أجل الانقلاب عليه”.
ومع تطور الاحداث وتغير الحكام واستقرار طبيعة النظام في الجزائر، يمكن القول أن انتفاضة أكتوبر قد أصيبت بانتكاسة لم يتم النهوض منها رغم مظاهر التعددية السياسية والإعلامية التي تمارس في دائرة عن سيطرة العصب الحاكمة، ولهذا يطرح السؤال لماذا فشلت انتفاضة الخامس أكتوبر في تحقيق التحول الديمقراطي رغم ارتفاع كلفتها البشرية؟
يتبع