هـــــؤلاء أهـــل الجنــــة تعالــــوا لنكـــون منهـــم فــي جنـــات النعيـــم
الشيخ محمد مكركب أبران /
إذا آمنا إيمان المتيقنين الصادقين، وصلينا صلاة الخاشعين المحافظين، وزكينا زكاة المخلصين المحسنين، وصمنا صوم المؤمنين المحتسبين، وذكرنا الله كثيرا كذكر الذاكرين القانتين… فنحن في طريق نحو جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
علمنا وعلمتم أن العاقل لاتغره الحياة الدنيا بكل ما فيها من المال والشهرة والجمال، ولا ما فيها من المكاسب والمناصب والسلطان والدلال، ولا يغره بالله الغرور من شياطين الإنس والجان، لأن العاقل يريد الآخرة فقد حدد البوصلة الإيمانية نحو لقاء ربه، وعقد العزم على السير نحو الجنة.
من صفات أهل الجنة: الوفاء بعهد الله. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ (الرعد:19). وأولوا الألباب هم أهل الفطرة السليمة، والمعنى: إنما يتعظ بآيات الله ويستقيم ذوو العقول السليمة. ولِتَعَقُّلِهم واستقامتهم استحقوا ذلك المصير الحسن والفوز المبين يوم لقاء رب العالمين. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ (سورة الرعد:22،23).
وهؤلاء أولو الألباب الذين لهم جنات عدن يدخلونها مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، هم الذين يجب أن يتحلوا بصفات بيّنها الله سبحانه في هذه الآيات البينات من القرآن الكريم، وأول صفة لهؤلاء: {الوفاء بالعهد}. قال لله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ (سورة الرعد:20). ومعنى الآية -والله تعالى أعلم- الذين يوفون بعهد الله، أي: يُتمّون عهد الله الذي وصاهم به، وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده. والعهد: ورد في لسان العرب: {العَهْدُ كُلُّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وكلُّ مَا بَيْنَ العبادِ مِنَ المواثِيقِ، فَهُوَ عَهْدٌ… كلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ}. ولذلك يعترف العبد التائب وحين يستغفر الله يقول: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت…» {أي أنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك لا أزول عنه} (اللسان) قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ أي: لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين الله، وبين العباد مع بعضهم. ومن معاني الميثاق الوثيقة أو الكتاب أو الشرع أو المنهاج الذي يتضمن العهود. والميثاق الذي يجمع العهود التي بين الله وعباده القرآن. ومن المواثيق التي بين العباد مع بعضهم الدساتير، والقوانين، والمعاهدات، والسجلات والعقود… فمن معاني الميثاق: {وثيقة العهود} وفي تفسير الطبري: {قال أبو جعفر: الميثاق= المفعال. من(الوثيقة) إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق}.
والصحابة رضي الله عنهم علموا عظمة العهد، وشدّةَ خطرِ من يخالف الميثاق. ففي تفسير مقاتل في تدبر قول الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ وذلك أنّ نفرا من اليهود منهم فنحاص، وزيد بن قَيْس، بعد قتال أُحُد، دعوا حُذَيْفة وعمارا إلى دينهم وقالوا لهما: إنكما لن تصيبا خيرًا للذي أصابهم يوم أُحُد من البلاء. وقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم ونحن أهدى منكم سبيلا. قَالَ لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قَالُوا: شديد، قال عمار: فإنى عاهدت ربي أن لا أكفر بمحمد أبدا، وَلا أتبع دينا غَيْر دينه، فقالت اليهود: أما عمار فقد ضلّ وصبأ عن الهدى، بعد إذ بصره اللَّه، فكيف أَنْت يا حُذَيْفة؟! ألا تبايعنا؟ قَالَ حُذَيْفة: اللهُ ربي، ومُحَمَّدٌ نبيي، والقرآن إمامي، أطيع ربي، وأقتدي برسولي، وأعمل بكتاب الله ربي، حَتَّى يأتيني اليقين على الإسلام.
واللهُ تعالى بَيَّنَ وحذَّر ووعَظَ المؤمنين بأن لاينسوا نعمة الإسلام والميثاق الذي واثقهم به. أي عاهدهم عليه. قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾.
قال الزمخشري: {واذكروا نعمة الله عليكم وهي نعمة الإسلام وميثاقه الذي واثقكم به أي: عاقدكم به عقدا وثيقا هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان} (1/612)
ومن العهود: العهد الذي بين إمام الأمة والرعية. ماهي عهود الميثاق الواجبة على الإمام. (الرئيس، أو الملك، أو الأمير…) أن يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقيم العدل بين الناس، ويوفر للرعية ما يكفيها من وسائل العيش. وما يجمع ذلك كله أن يحكم بشريعة القرآن الكريم، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن خُطب الخلفاء الأئمة الأمراء: خُطبة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما وُلِّيَ الخلافة. من دستور الخلفاء.
فقد حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {أمّا بعد؛ أيها الناس فإني قد وليت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقويّ فيكم ضعيفٌ حتى آخذ الحقّ منه إن شاء الله. ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قَطّ إلا عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله} (تاريخ الخلفاء:57). هذا من دستور الخلفاء رضي الله عنهم.
وإمام المسلمين يعينه علماء المسلمين مجتمعين في مجلس. ونصيحة رسول الله لأبي ذرّ: [يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا] (مسلم:1825).
وليعلم الخلفاء والأمراء، من رئيس الدولة إلى الوزير والوالي، ورئيس البلدية، والمحافظ، والقاضي وكل مسئول في الدولة، ليعلموا أن أمانة الإمارة عظيمة وليُسْألن عنها يوم القيامة. فعن عبد الرحمن بن شماسة، قال: أتيت عائشة رضي الله عنها، أسألها عن شيء، فقالت: ممنْ أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر. فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، ويحتاج إلى النفقة، فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: [اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ] (مسلم:1828)
فمن هو الذي يُعْذَرُ بِعَدَمِ الاستطاعة؟ أي: من هو المسؤول الذي يتولى إمارة كرئيس بلدية، أو ولاية، أو رئاسة مجلس، أو غير ذلك من الأمانات وإذا لم يؤد مهامه مائة بالمائة، يقول: هذا الذي استطعت. والله تعالى قال: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. من يحق له الجواب بهذه الآية عند التقصير؟ هو الذي يُكلَّفُ من قِبَلِ الأمة عن طريق علمائها. أما من يطلب المسؤولية هو بنفسه فلا يحق له الاعتذار عن التقصير مهما كانت الأسباب، لأن الأصل في تولي مناصب المسؤوليات أن من لم يستطع يبتعد عن المسئولية ويتركها لمن يقدر عليها. وفي الحديث: [مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ] (مسلم:1829).