«الكَرَاغِلَة» في الجزائر العثمانية…بين المزاعم والحقائق…

فوزي سعد الله /
المصادر الغربية الخاصة بتاريخ الجزائر في العهد العثماني والمتأثرون بها يقولون إن الكراغلة- وهم المولدون من زواج عثماني/جزائري محلي- كانوا ضحايا إقصاء عنصري من طرف الحُكّام العثمانيين الذين همَّشوا، حسبهم، كل ما هو محلي جزائري، ورفضوا حتى ذوي الدماء المختلطة الجزائرية العثمانية. وقالوا أيضا من بين ما قالوه للتدليل على مزاعمهم، وهي غير صحيحة، إن الكراغلة، وبسبب الجزء غير العثماني من دمائهم، كانوا يُسرَّحون من الخدمة في الجيش الإنكشاري مبكرا دون أن يتجاوزا في أحسن الأحوال رتبة الـ: «بولوك باشي» التي تعادل برُتب اليوم: «النقيب» (Capitaine)…،
وترسّخت هذه الفكرة غير الواقعية، والأفكار المشابهة لها، في بعض الأذهان منذ أكثر من 200 عام مثلما ترسخت فكرة أن «الكراغلة»، جمعًا، و»كوروغلي» مفردًا، تعني على التوالي العبيد والعبد؛ احتقارا لهذه الشريحة الاجتماعية، لأنها ليست «تركية» مَحضة لاختلاطها عرقيًا بالجزائريين…
وثائق الأرشيف الجزائري/العثماني المحفوظة في العاصمة الجزائرية التي تتضمن عقود الملكية والبيع والشراء وعقود الزواج والطلاق والتركات والأوقاف وغيرها، وهي وثائق رسمية، تقول شيئا آخر مختلفا تماما…
شريحة الكراغلة التي ظهرت منذ السنوات الأخيرة من القرن 16م بعد السماح لجنود الإنكشارية بالزواج، لأنه لم يكن مسموحا لهم به في السابق، ارتقت داخل الانكشارية إلى جميع الرتب العسكرية دون استثناء: من رتبة الجندي البسيط، الـ: «يُولْداش»، إلى «وكيل الحرج» والـ: «بولوك باشي» والـ: أُوضَة بَاشِي» إلى الـ: «آيَا بَاشِي» والـ: «الآغَا» و»آغَا بَاشِي»، وهي أعلى الرُّتَب في القوات البرية الجزائرية، خلال العهد العثماني، المعروفة بـ: الإنكشارية. من بين هؤلاء، يَذكر الأرشيف الجزائري/العثماني، في النصف الثاني من القرن 17م وطيلة القرن 18م على الأقل، مصطفى اياباشي بن سليمان التركي، ويوسف أيا باشي بن مصطفى التركي، ومحمد وكيل الحرج بن حسين بن علي أغا، وسليمان آغا بن عمر التركي، والحاج مصطفى آغا بن محمد بن مراد خوجة، والحاج محمد آغا بن عبدي باشا، ابن الدّاي عبدي باشا ذاته، ومحمد منزول آغا بن علي التركي، وعلي آغا بن حسين التركي، وأحمد آغا بن علي التركي…إلخ. والقائمة طويلة… ولم تختلف أجور الكراغلة عن أجور زملائهم الانكشارية من غير الكراغلة، مثلما قد يُتصَوَّر، في بلد كان فيه الأسير والعبد يتقاضى أجره كاملا كغيره من الأحرار عندما يعمل بعرق جبينه خارج أوقات العمل عند مالِكه…
ووصل الكراغلة إلى أعلى الوظائف في الدولة، بما فيها الإدارية والسياسية على غرار منصب ناظر مؤسسة أوقاف الحرمين الشريفين، عالية الأهمية آنذاك، ووكيل بيت المال والباي، على غرار الحاج أحمد باي آخر بايات قسنطينة، والخزناجي الذي كان بمثابة الوزير الأول ونائب الداي، على غرار الخزناجي إبراهيم بن رمضان التركي (1728م/1731م)، وحسان بن خير الدين بربروس الذي كان أوّل كروغلي حَكم الجزائر في أربعينيات القرن 16م، فضلاً عن مناصب الفتوى والقضاء على غرار المفتي بن قارَمان (1619م/1627م) ومختلف الحرف والعلوم والفنون…إلخ.
أما الزعم بالتسريح المبكر لمنع الارتقاء إلى الرُتب العليا فإن قانون «عهد الأمان» المنظِّم لعلاقة المجَنَّدين بالمؤسسة العسكرية والدولة في الجزائر يقول رسميًا، وعلى حد تعبير الفرنسي ألبير دوفول (Albert Devoulx) الذي درس الأرشيــف المحلي في بحثهAhad Aman règlement politique et militaire الصادرة في مجلة Revue Africaine, N 4. 1860 :»ليكن في علم إخواننا الانكشارية وأبنائنا الكراغلة أن الغالبية منهم سيظلون في الخدمة إلى سن الأربعين أو الخمسين أو الستين، أي التقاعد.»…
وإذا كان قد وُجد بعض التحفظ من قبل السلطات العليا تجاه الكرغلي في بدايات العهد العثماني بالجزائر، فلأسباب سياسية وقائية لِكون الكرغلي عادةً يَنتصر لأخواله الأهالي «الجزائريين» في المواقف السياسية والاجتماعية وليس إلى «العثمانيين»، وهو ما يؤكده العديد من الكُتّاب والباحثين الجزائريين والغربيين كالأمريكي جون وولف.
تجدر الإشارة إلى أن قوات الانكشارية لم تكن كلها تركية الأصل؛ بل كانت خليطًا من شعوب بلدان البحر الأبيض المتوسط وأوروبا الوسطى والشرقية والغربية وأيضا من بعض البلدان العربية المشرقية.
وضِمْنَ القوات الإنكشارية، عكْس ما شاع بأنها لا تقبل الأهالي الجزائريين وتقتصر على «الأتراك»، وُجد البليْدي والقليعي والتلمساني والقسنطيني والعنابي والذين لا يُستبْعَد أن يكون مِن ضِمنهم الزّواوي البَلْدِي الذي اختار الإقامة الدائمة في المدن الكبرى والمتوسطة وأصبح يُنسب إلى البلدة وليس إلى القبيلة…إلخ. وهو ما كان يحدث في ولايات عثمانية عربية أخرى بشكل طبيعي، وربما أكثر كثافةً حسب الباحث عبد الكريم رافق في بحثه الصادر عام 1970م «مظاهر من الحياة العسكرية في بلاد الشام من القرن 16م حتى مطلع القرن 19م»….
وهكذا، احتفظ لنا الأرشيف الجزائري/العثماني بأسماء جزائرية أهلية ضمن الجيش الإنكشاري، القوات البرية، نَذْكُر من بينها خلال النصف الثاني من القرن 17م إلى بداية القرن 19م: مصطفى آغا التلمساني، وحسن الانكشاري بن جعفر المستغانمي، والأخضر الانكشاري الملياني، ومحمد الانكشاري اللَّمْدَانِي نسبةً إلى مدينة المدية، وعثمان الانكشاري البُليْدي، ومحمد الانكشاري بن حسين القليعي، وخليل الانكشاري العنابي البلوكباشي…إلخ.
أما تسمية «الكراغلة» فلا تعني العبودية بمعنى استعباد الناس واسترقاقهم؛ وإنما المقصود أنهم «عبيد السلطان»؛ أي المتفانين في خدمة السلطان العثماني، بمن فيهم الموظفون السامون في الدولة العثمانية الذين شملتهم هذه التسمية. ولا علاقة لتسمية «الكراغلة» بالاستعباد، فضلا عن عدم وجود وثائق أو نصوص أو أحداث تاريخية تؤكد أن الكراغلة، ولا غيرهم من الجزائريين، كانوا ينظرون إلى تسمية «الكرغلي» على هذا النحو، أو أن الكرغلي رفضها أو احتج عليها معتبرا إياها إهانة ومَذَمّة مُنتَقِصَة مِن كرامته. بل العِبَارة ذاتُها نادرة في وثائق الأرشيف، لا سيما المتأخِّر منه المتعلق بالقرن 18م والقرن 19م.
وإذا أخذنا، في هذا المجال، بأقوال المؤرخ الباحث الليبي عقيل البربار في «دراسات في تاريخ ليبيا الحديث»؛ فإن تسمية «الكراغلة» أُطلقتْ في بلاده على عدة قبائل «كالمحاميد وزناتة وهي قبائل عربية»، على حد تعبير الباحثة الجزائرية عمريوي فهيمة صاحبة: «الجيش الانكشاري بمدينة الجزائر خلال القرن 12 هـ/18م» اعتمادا على الأرشيف، وهما قبيلتان معروفتان في ليبيا وفي الجزائر منذ فترة طويلة سابقة لدخول العثمانيين. وبالتالي، تُصبح تسمية «الكراغلة»، برأي عقيل البربار، تسمية مهنية وليست البتة عرقية أو إثنية.
هكذا كانت الحقائق التاريخية الثابتة في الوثائق الجزائرية، ولا علاقة لها بالكذب المُؤدلَج والمُسيَّس الذي يملأ الكثير من المؤلفات الغربية ومَن سار على نهجها. وهكذا كان هؤلاء الكراغلة…جزائريون بالمولد وبالثقافة والمُعتقَد، وبرسوخ الأقدام على هذه الأرض وبخدمة الجزائر والجزائريين في كل المجالات منذ 5 قرون…
الصورة: الحاج أحمد باي، الكرغلي، آخر بايات قسنطينة وآخر بايات الجزائر.