مثل المسلمين في مخالفة الهوية/ محمد مكركب
عندما هجروا اللغة العربية وانسلخوا من الخلافة الاتحادية مثل العالم العربي أولا، والمسلمين جميعا في هجران لغة كتابهم، وانسلاخهم عن اتحاد كان يجمعهم، مثل المنتحر الذي فقد صوابه، ومثلهم في خذلان وإهانة لغة العلم والتكنولوجيا والحضارة والدين، وتسييد غيرها، مثل المترنح تحت ضربات عدوه، وهو في غير حس ولا تركيز، يتهيأ لاستقبال الضربة القاضية.
إن أكبر العثرات والنكبات التي وقعت فيها الشعوب العربية عامة والشمال لإفريقي خاصة، في جانب من تاريخهم الملون، والذي لم يثبت على صبغة واحدة، الانسلاخ من الخلافة التي كانت توحدهم وتقويهم، وهجران اللغة العربية، التي رفعت حضارتهم إلى قمة المجد. أمران دمرا سياسة وقوة العرب، بل والمسلمين عامة؛ وكان الجانب الأخطر، في هذا، هو الانقسام الفكري، وسببه هجران اللغة العربية، والذي تبعه الانقسام السياسي. وبذلك خسر العرب ليس ماضيهم التاريخي فحسب، بل وحاضرهم الذي لا يُحْسَدون عليه، وها هو مستقبلهم في مرمى التهديد المباشر.
إن كنت تتعجب من العثرات السياسية التي سقط بسببها حكام كثيرون في شمال إفريقيا، فلا تجد أعجب ولا أغرب ممن يتنازل عن ثوابت سيادته، ويمجد ثوابت غيره، ومثل هؤلاء هم المتنكرون للغة العربية، لأنها لغة القرآن الذي جمع الله به الأمة، ويُسَيِّدُون على أولادهم اللغة التي مزق أهلُها المشرقَ العربي، والمغربَ العربي، بانسلاخ العرب من الخلافة واللغة العربية، بذلك سقطوا من أعلى سيادة العولمة العادلة، وقيادة الموكب الحضاري نحو المستقبل، إلى دركات التخلف والتبعية نحو الأسفل. ومازال دعاة الشبهات الثقافية والْمُمَرِّجون للمناهج التربوية يفعلون فعلهم في الأذهان التقليدية، بقولهم لهم: الإنجليزية لغة العلم، والفرنسية أختها؟
في التسعينيات من القرن العشرين قيل لحاكم عربي حان الوقت لإطلاق سراح قرار التعريب، وإفساح المجال لسيدة اللغات ومفتاح العلم والثقافات بأن تخوض العربية طريقها نحو المجد الحضاري، في الجامعات العلمية، ولنحرر مناهجنا التعليمية وإدارتنا، وألسنتنا من عقدة الشعور بالنقص، ومن هيمنة التبعية الفكرية والسياسية المدسوسة في المناهج التربوية عبر اللغة الأجنبية. فكان الجواب: نعم للعربية، ولكن حتى نرقيها!؟ ومعنى هذا فالفرنسية عندهم قد رقيت وهي أصلح من العربية التي رقاها الله تعالى وأنزل بها الرسالة السماوية العالمية الخالدة؟ فالله عز وجل اختارها وهو العليم الخبير لأحسن وأكمل وأشرف منهاج لكل البشر، بل للإنس والجن، وهم يقولون لا تصلح للتعليم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].
مازال العلماء يكتشفون كل حين معجزاتٍ علميةً من خلال تدبر الآيات القرآنية، في إخبارها عن الآيات الكونية، وفي ذلك الدليل الأصيل، والبرهان الجليل، على عظمة اللغة العربية التي شاء الله تعالى أن تكون الوعاء البياني الحكيم، للقرآن العظيم، قال الله تعالى:﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[يوسف:2]، ولكن الغالبية مما هجروا العربية لا يعقلون. ولاشك أن اللغة التي حملت بأمر الرحمن، هذا القرآن، لهي اللغة التي تستطيع بإذن الله حمل أهلها إلى سماء الحضارة والمجد. قال المفسر أحمد مصطفى المراغي في تفسير هذه الآية، قال: “والمعنى أن الله أنزل هذا الكتاب، على النبي العربي، ليبين لكم، بلغتكم العربية، ما لم تكونوا تعلمونه، من أحكام الدين، وأنباء الرسل، والحكمة، وشؤون الاجتماع، وأصول العمران، وآداب السياسة، لتعقلوا معانيه، وتفهموا ما تُرْشَدُون إليه من مطالب الرّوح، ومدارك العقل، وتزكية النفس، وإصلاح حال الجماعات، والأفراد، بما فيه سعادتهم، في دنياهم وآخرتهم”.
قال محاوري: كل هذا كلام طيب، ولست وحدك الذي يشهد بهذا، وما بينته في مقالاتك عن المادة الثالثة من الدستور الجزائري، كاف وشاف. وقد ثبت يقينا، لا ريب فيه أن تقدم العرب لن يكون بغير دينهم الإسلام، ولغتهم العربية، كما ثبت بالدراسات والتجارب أن اللغة العربية بغناها، وفصاحتها، ومصلحاتها، أغنى لغة على الإطلاق، وأن توظيفها في التنمية الحضارية، لهو أصل الأصول، ومفتاح الوصول. إنما هل المنغمسون في كهنوت الفرنسة، وسحر الأنجلزة، يسمعون، أو يستجيبون؟
هل المنبهرون بتعالي الغالب، الذي تطاول بسبب ضعف المغلوب، وقبول المغلوب استعباد الغالب له، هل يستجيبون لمنطق التاريخ، والعلم، والحكمة، والدين؟
قلت: إننا نقول لإخواننا المسئولين في الإدارة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وفي كل قطاعات الدولة، في الجزائر بالخصوص: اللهم اشهد، فإننا قد بلغنا، ونقول لهم: بأن الإصرار على هجران اللغة العربية، ورفض التعريب الشامل، جريمة في حق الأمة، والوقوف في وجه التعريب، هو وقوف في وجه تقدم الشعوب الإسلامية. والجزائر بالخصوص.
وليس العرب وحدهم الذين ظلموا لغة القرآن، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أُعطِي جوامع الكلم، وهي لغة خير من نطق على هذه الأرض، من هذه الأمة العظيمة، التي كانت بشهادة الله تعالى أنها خير أمة أخرجت للناس. إنما اللغة العربية قبل أن تحاربها فرنسا في المغرب العربي، وبريطانيا في المشرق العربي، تخلى عنها، إخواننا الأتراك، فكانت ضربة قاسية أن تُهْجَرَ العربية في عاصمة الخلافة العثمانية، ولكن الانسلاخ من الخلافة علامة على الانسلاخ من الحضارة القرآنية. والحضارة كما تعلمون قوامها الإسلام واللغة العربية؛ فغفر الله لنا، ولإخواننا الأتراك الذين سمحوا لأنفسهم بأن تُخْذَلَ العربية في بلدهم، باسم العصبية والعنصرية العاطفية، وحتى وإن تعصب الأقوام في تركيا، وإيران، وباكستان، وأندونيسيا، للغاتهم، ولهجاتهم، كان المفروض أن يُرَسِّموا لغة القرآن، ولغة الحضارة، والعلم والبيان، بأن تكون هي اللغة الثانية، على الأقل، ولكن انطلت الحيلة، على المسلمين في العالم بأن الإنجليزية هي لغة العلم، وليست العربية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال محاوري: أجل، نتأسف لهذه الشعوب المسلمة، التي تناصر، لغات غيرهم، كالإنجليزية والفرنسة، والإسبانية، ولا نقول هذا عاطفيا، أو عصبية، إنما لأن العربية أولى من غيرها كما علمنا. إلا أن ـ واصل محاوري يقول ـ لا بأس بأن تكون اللغة الإنجليزية هي الثانية بعد العربية في البلدان الإسلامية، لأن لإنجليزية لغة علم.
قلت: ها أنت تكرر عبارة الانهزام، عندما قال الخوارج لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[الأنعام:57] قال رضي الله عنه، هذه: “كلمة حق أريد بها باطل” وأما الذين قالوا: (الإنجليزية أو الفرنسية هي لغة العلم وليست العربية) قلت: “هذه كلمة باطل، أريد بها باطل” فالذين يقولون بهذه النغمة الباردة، الشاردة، بأن العربية ليست لغة العلم، فهم يتحدثون بفكرة (الأنجلو- فرانكو) التي يُشْرِبونها أولادهم مع لبن الرضاعة. فهم سَيَّدُوا عليهم اللغة الأجنبية، بالضبط مثلما سَيَّدُوا عليهم العملة الأجنبية، حتى أنسوهم الدينار الذهبي الشرعي. وعندما ترك العرب العمل بالدينار الشرعي الذهبي، والدرهم الفضي، حَطَّمُوا اقتصادهم بأيديهم وأيدي، أصحاب الدولار، والجنيه، والأورو. وما علموا أن الربا خراب للاقتصاد، وأن لجوء البنوك في البلدان الإسلامية إلى الربا، سببه هجران العمل بالدينار الذهبي الشرعي. فكذلك يريدون أن ينسوهم اللغة العربية، ليهجروها ـ وقد هجروها فعلا ـ وبذلك يدمرون مستقبلهم العلمي الحضاري.
قال محاوري: أنا لا أريد معاكستك أبدا عندما قلت لك مناغمة لادعائهم، بأن الإنجليزية لغة علم، وإنما ما العمل؟ وقد كثر أعداء العربية؟ فالعمل بالإنجليزية أحسن من الفرنسية. فلم انتظره يكمل فحوى قوله لما يريد من انهزاماتهم. وقلت له: إذن فهي. أي الإنجليزية، أيضا أحسن من العربية؟ قال: لا، أبدا. قلت: وإذن لماذا تعيد هذه الاسطوانة القديمة، أسطوانة الاستعمار. ومفادها: أنه يا معشر العرب المتخلفين بهجران لغتكم، وعملتكم، وقانون شريعة ربكم، اختاروا لتعليم أولادكم، وتسيير إدارتكم، أي لغة أجنبية، إلا العربية التي نخشى إن استعملتموها بشمولية وجد أن تتفوقوا بها علينا. ثم قلت: اسمع، قال أحد المدافعين الفاشلين عن العربية كمحاوري هذا: الفرنسية ضعيفة بالنسبة للإنجليزية. لماذا لا نستبدلها بالانجليزية؟ فرد عليه محاوره بسرعة البرق، وهي النية المبيتة في نفوس أهل هذه الدعوة ـ دعوة الأنجلزة ـ قال له: ولكن لا نلغي الفرنسية لأنها هي الأقرب للإنجليزية؟ قال له صاحبنا بسذاجة المرتبك: ومعنى هذا نُعَلِّم أولادنا بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وتصبح عندنا ثلاث لغات رسمية وطنية؟ فرد عليه قائلا: ولماذا نتعب أولادنا بكل هذا مادُمْتَ تقول الإنجليزية هي لغة العلم، والجميع يطالب بها، فلنبق الفرنسية القريبة منها، إلى أن يتمكن أولادنا من الإنجليزية، وتمر الأمور بسلام؟ قال محاوري: وكيف رد عليه؟ قلت: لو كنت أنت بماذا ترد عليه؟ قال: غابت لي. قلت: نعم. وهكذا غابت لكل المسؤولين العرب، غابت لكل من غَيَّبُوا أصولهم وثوابتهم، غابت لكل من غيبوا شخصيتهم، ورفضوا التكلم بلغة الرسول صلى الله عليه وسلموا، وفضلوا لهجاتٍ ولغاتٍ وألسنٍ لا تساوي ظفرا من العربية. فصار الواحد منهم، يستحي أن يتحدث بلغة حبيبه صلى الله عليه وسلم، ويتباهي بـ: (الغو) ليقال عنه متقدم؟ إنها عقد انهزام الضفادع المائية، أما ثعابين الأمازون.