حذار من الكلام في العلماء/ التهامي مجوري

مما حفظنا عن أهل العلم “أن لحوم العلماء مسمومة”، ولكن الفساد السياسي قلب هذه المقولة وتعمد تجريد العلماء من مكانتهم الطبيعية في الأمة، ووضعهم في مواقع تسوي بينهم وبين السفهاء من الناس، مجردين من كل خصوصية اختصهم الله بها، باعتبارهم هداة ومصلحين يقدمون للأمة ما لا يقدمه لها غيرهم ولا يرجون منها جزاء ولا شكورا.
وما ينفع أهل الفساد السياسي في ذلك أن لا يبقى لطبقة من الناس امتياز يتميزون به عليهم، ولو كانوا من العلماء؛ لأنهم يريدون عبيدا لا فروق بينهم؛ ثم إن الغرب الذي يحكم العالم الإسلامي عبر وكلائه فيه، لا يريد أن يكون “للعز بن عبد السلام” ذكر في الناس، ولا يريده أن يظهر من جديد ليبيع وكلاءه في السوق كما بيع المماليك على عهده وبفتوى منه.
لا شك أن من العلماء من أخطأ ومن تحامل ومن تقرب من السلطان ومن باع الشعوب….، ولكن هؤلاء ليسوا سواء، فمنهم من حسنت نيته ومنهم من يملك ما لا نملك من المعطيات التي بين يديه، والقليل القليل من باع آخرته بدنيا غيره، وعليه فإن القاعدة في الموقف من العلماء هو حسن الظن والثقة في فيهم وفي صدقهم، بل والتوقف عند مواقفهم المخالفة، وللعلماء فيما بينهم ما ليس لغيرهم تجاههم.
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، سأل شاب أحد الدعاة.
ما رأيك في جمال الدين الأفغاني؟ فقال له الأستاذ ولِمَ هذا السؤال؟ فقال الشاب إني قرأت كتابا يقول عنه إنه ماسوني؟! فقال له الأستاذ وقالوا عن الأمير عبد القادر ماسوني، وقالوا عن محمد عبده ماسوني، وقالوا عن حسن البنا عميل للأنجليز، وقالوا عن محمد بن عبد الوهاب عميل للأنجليز، وقالوا عن فلان وفلان وفلان، بحيث لا يكاد يخلو بلد من “عالم عميل”، ثم أردف الداعية قائلا للشاب: إن من أساليب الصراع الذي بين الغرب والعالم الإسلامي –لا سيما بعد استقلال شعوبه من الهيمنة الغربية- هو التشكيك في القيادات العلمية والدعاة؛ لأنهم بوصلة المحافظة على ثوابت الأمة المميزة لها عن غيرها من الأمم؛ على أن السياسي قد تضلله المصالح عن العمق الديني الثقافي، أما العالم والداعية، فإن رأس ماله هو الحفاظ على ثوابت الأمة والدعوة إلى الخير، وتلك هي المصلحة في تقديره.
وهذا المعنى لا يزال يتكرر بصور أخرى إلى اليوم، مع تغيير طفيف في الألفاظ والمصطلحات، فبعد أن كانت الصورة تهمة الانتماء إلى الماسونية، تحولت إلى تهمة بالعمالة للأنظمة الفاسدة، لا سيما بالمسبة للذين اشتغلوا بداخل السلطة السياسية فأصبحوا يمثلونها ويدافعون عنها، كوزراء ومفتين ورؤساء مجالس، رغم أن وجود هؤلاء في المؤسسات الرسمية عصم الأمة من الإنحرافات الدينية في الكثير من الأحيان، ثم تحولت التهم بعد ذلك إلى صور جديدة وهي وصف بعض العلماء بمدارس وملل ونحل من التاريخ، فهذا معتزلي وذاك أشعري وآخر وحدة الوجود وغيره حشوي…إلخ، حتى أن احد الشباب بعد أن كرر الاسطوانة مدة من الزمن، قال متسائلا ذات يوم… إذا كان الذهبي وابن حجر أشعريان، وخليل مذهبي والغزالي صوفي والعيني والزمخشري معتزليان، وفلان بدعي وفلان ضال وفلان فاسق… على من نأخذ ديننا إذا؟
وهذه الأيام يتعرض علماء الأمة إلى الهمز والغمز واللمز، بسبب مواقفهم الشرعية والسياسية، وهي في تقديرنا مواقف جزئية عابرة، لا تمثل شيئا إذا ما قيست بما قاموا به ويقومون من خدمات للأمة، مثل موقف علماء الحجاز من سياقة المرأة وغيرها من المواقف أو مواقف الشيخ يوسف القرضاوي في قضايا سياسية معينة.
لا شك أن هؤلاء العلماء سواء الذين هم في السلطة أو كانوا خارجها، لهم معطياتهم وتخريجاتهم لمواقفهم الصائبة والمخطئة، ولهم ظروفهم التي يتكلمون في إطارها، ويخطئون ويصيبون ولكن أخطاءهم لا تنزل من أقدارهم في شيء؛ لأنهم علماء.
ولذلك لا ينبغي أن نسير في خط مسايرة النيل من علمائنا مهما صدر عنهم من أمور، إلا من باع دينه بدنيا غيره كما يقال.. فقد مرت معنا وقائع يصير فيها الحليم حيرانا ولكن لا ينبغي أن ننسى لأهل الفضل فضلهم، فالشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، لا يقر على الكثير من مواقفه السياسية، ولكنه واحد من علماء الأمة الذين قدموا من العلم في المساجد ما لم تقدمه الجامعات..، والشيخ يوسف القرضاوي الذي قضى 70 سنة دعوة إلا الله وتحمل كل المتاعب في سبيل ذلك، ولكن المرجفين لا يذكرون له إلا قوله “اقتلوا القذافي على رقبتي”، وهل يمكن أن يشك مؤمن صادق في نية الشيخ صالح ابن عثيمين والشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله، رغم أنهما كانت لهما مواقفهما التي لا يقران عليها.؟
في جزائر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كنا نرى أن الشيخ أحمد حماني رحمه الله من علماء السلطان، وفي إحدى زياراتي للشيخ أحمد سحنون رحمه الله روى لي انه كان في زيارته جماعة من الشباب للإستفتاء، فقال لهم اذهبوا إلى الشيخ حماني… فقالوا له لا يمكن… وذهبوا يجرحون ويذكرون ما لا يذكر…، يقول الشيخ وكنت على هيئة ولما سمعت كلامهم اعتدلت وغيرت من هيئتيي، ورحت أؤنبهم.. ماذا تعرفون عن الشيخ حماني آه؟ وذهب يعدد لهم فضائله ومكانته العلمية، ووجههم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من احترام للعلماء؛ لأنهم علماء قبل كل شي، رغم أن الشيخ كان محسوبا على معارضي السلطة، بينما الشيخ حماني كان رئيسا للمجس الإسلامي الأعلى التابع للدولة.