بالمختصر المفيد

وطننا..ولوثة الإفرنج/ كمال بوسنة

 

جلستُ في مكتبي وحملتُ ديوان شاعر النيل حافظ إبراهيم – رحمه الله – لأقرأ شيئا من شعره مروحا عن نفسي بعد يوم طويل متعب، ومن غير قصد مني انفتح ديوانه على قصيدته الرائعة الخالدة التي نظمها على لسان اللغة العربية تنعي نفسها بين أهلها…

ولقد أحسستُ، وأنا أتلو القصيدة، بنار تتأجج في داخلي، وتأكل أحشائي، عندما وصلتُ إلى قوله على لسانها:

أيهجرني قومي عفا الله عنهم

                                 إلـى لغة لـم تـتصل برواةِ

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى

                          لعاب الأفاعي في مسيل فراتِ

أجل.. ما أكثر الذين عادوها وهجروها من بني جلدتنا إلى لغة أخرى زعموا أنها حيّة ظانين أن اللغة العربية ليست لغة علم وحضارة …

بل وانتهى الأمر ببعض المغرر بهم إلى وصفها بالعجز، ووصف المتكلمين والكاتبين بها بالتخلف والرجعية، ومعاكسة مجرى العصرنة…

وتدهور اللسان الجزائري- بسبب عوامل مؤثرة عديدة – حتى لم يعد مفهوما ومصنفا، فلا هو باللسان العربي المبين، ولا هو باللسان الأمازيغي السليم، ولا هو باللسان الفرنسي الدخيل..!

إن أي حركة منظمة للدفاع عن اللغة العربية في وطننا عمل صالح وخطوة محمودة في سبيل المقاومة المشروعة ضد ” الفَرْنَسَة ” في أرض الجزائر العربية المسلمة، ذات البُعد الأمازيغي العريق، فمنافحة تركة المستدمر الفرنسي في أجهزة الدولة الجزائرية ومؤسساتها ضرب من الجهاد المقدس الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنون، وهو استمرار حقيقي لثورة أول نوفمبر المجيدة التي رفعت السلاح ضد العدو الفرنسي الهمجي فأخرجته ماديا من كل شبر من ثرى بلادنا الحبيبة، وقد آن الأوان لإخراج روحه الخبيثة من كل عضو من أعضاء جسدها المنهوك لتحيا الجزائر بعد ذلك بدينها الإسلام، ولغتها العربية، كما كان يأمل المضحون بأرواحهم من أجل الاستقلال الكامل غير المنقوص .

إن أعظم الحضارات قديما وحديثا هي التي حافظ ويحافظ أبناؤها البررة، وحفدتها المهرة، على لغتهم، وعلى باقي ثوابتهم المقدسة، كما فعلنا نحن ذات يوم لما كنّا نُعتبر العالم الأول في مصف الأمم الراقية، والحضارات المندثرة أو الباقية…

ومما يُروى عن رئيس الوزراء الأسبق “جورج كليمنصو” (1841- 1929) أنه دُعي إلى حفل لتكريم بعض الطلبة الشباب الذين شاركوا ببسالة في الحرب دفاعا عن فرنسا..ولما افتتح الحفل قام أحد الطلبة بإلقاء كلمة ترحيب بالمناسبة, ولسوء حظه أنه وقع في أخطاء لغوية ونحوية كثيرة، وحين بدأ الرئيس ” كليمنصو” بتكريم الطلبة وإلصاق “النياشين” على صدورهم توقف أمام الطالب الخطيب وامتنع عن تعليق ” المدالية ” على صدره قائلا: ” إنني لأستحي أن أعلق “مدالية” على صدر فرنسي لا يتقن لغته”!

ومن سنين سالفة أرسل بعض طلاب إحدى الجامعات الأمريكية رسالة شديدة اللهجة إلى قائد حلف شمال الأطلسي يحتجون لأدائه السقيم للغة الإنجليزية، رغم أن الرجل من كبار قادة “العسكر” وليس من الراسخين في لغة “شكسبير”، وطالبوه في رسالتهم:” إما السكوت أو صحة النطق “..!

وبنفس الوعي بقداسة اللغة التي هي جزء مهم في تركيبة الهوية لدى الأمم التي تحترم نفسها كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يقول عندما يسأله بعض ندمائه عن سبب اشتعال رأسه شيبا: ” شيبني صعود المنابر وتوقع اللحن “..!

وأكاد أحس بأن الأمة التي تفقد لغتها كالأسرة التي تفقد إحدى بناتها عرضها..!

لقد شقيت اللغة العربية في الجزائر بصنفين من الناس، وسعدت بصنف ثالث، أما هذا الأخير فأحبها حبا جما وأدى ما عليه من حق اتجاهها حيا وميتا، وصنف حاربها جهارا نهارا بدافع البغض المشحون به من أيام تعليق التمائم فأَثَّر الفكر الأعوج على اللسان فتعوَّج، وصنف آخر غريب الأطوار مذبذب لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، يدَّعي وَصْلًا بليلى، وأقواله وأفعاله ومواقفه لا تقرّ له بذاك.

إن الذين يحاربون الحرف العربي الذي أرهقه صعودا بعض مسؤولينا بالحرف الفرنسي الدخيل لن يصلوا إلى مبتغاهم الهدام، وهو القضاء على اللغة العربية، لغة القرآن، ولغة محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولن يفلحوا أبدا في تقزيمها مهما يرتفع شأنهم، ويعلو نجمهم، وحتى وإن مكروا بالليل والنهار، والسر والعلن…لأن المنطق المعقول يقول بأن القزم يبقى دائما قزما، والعملاق يبقى دائما عملاقا…

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com