استقبال شهر رمضان المبارك

د. يوسف جمعة سلامة*
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه – قال: قال رسول الله–صلى الله عليه وسلم -: («مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ «، و»مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).
هذان حديثان صحيحان أخرجهما الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب تطوُّع قيام رمضان من الإيمان، وباب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان.
يستقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها شهر رمضان المبارك، ونفسُ كلِّ واحدٍ منهم تعتلج بألوانٍ شَتَّى من المشاعر والمعاني، فمنهم من يأمل أن يُعَوِّضَ في شهر رمضان ما فَاتَهُ من التقصير على مدار العام، ومنهم مُتَحَفِّزٌ لرحلة إيمانية جديدة تُضيء له طريق الهدى والخير والنور، ويأتي شهر رمضان في كلّ عام ويهلُّ على الناس ببركاته وخيراته، فهو شهر الصيام والقيام، والتسابيح والتراويح، والكرم والسخاء والبذل والعطاء.
وَيُسعدنا في هذه المناسبة الكريمة أن نتقدم بأصدق التهاني والتبريكات من أبناء الأمتين العربية والإسلامية بحلول شهر رمضان المبارك، سائلين الله العليّ القدير أن يجعله شهر خير وبركة على شعبنا والأمتين العربية والإسلامية، إنه سميع قريب.
التوبة… وهجــر المعاصي
إِنّ الواجب علينا ونحن نستقبل شهر رمضان المبارك أن نغتنم فرصة حلول هذا الشهر الفضيل لفتح صفحة جديدة وذلك بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فكلُّ ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ}.
هذا نداء كريم من الله الرحمن الرحيم إلى عباده الذين فرَّطوا في جنبه وأسرفوا على أنفسهم، أن ينيبوا إليه وألاّ يقنطوا من رحمته ولا ييأسوا من عفوه وَمِنَّته، فهو يغفر الذنوب جميعاً ويتجاوز عن السيئات ويقبل التوبة ويعفو عن عباده وهو الغفور الرحيم.
فالتوبة كرمٌ إلهي ومنحةٌ من الله لعباده، عَرَّفهم فيها كيفية الرجوع إليه إِنْ بعدوا عنه وكيفية التخلص من تبعات الذنوب إذا عصوه، كي يفروا إليه تائبين مُنيبين مُتَطهرين، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إذاً المعنى الحقيقي للتوبة، أن ينتقل المرء المُسْرف على نفسه من ظُلمات الباطل والمعصية والهوى إلى نور الإيمان وكمال الطاعة وعزّ التقوى، لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، ومن مقتضياتها هجر الذنوب أصلاً، وتوطين النفس على عدم العودة إلى المعاصي، والشعور بالخوف من الله -عز وجل -، والندم على مَاجَنَتْهُ الأيدي، وردّ الحقوق لأصحابها.
حكم صيام شهر رمضان
إنّ صوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع:
فأمّا الكتاب: فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقوله –سبحانه وتعالى – أيضاً: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(6).
وأمّا السنة: فقول النبي –صلى الله عليه وسلم -: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ:
شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْت).
وفي حديث طلحة بنِ عُبَيْدِ الله: أن أعرابيًّا سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا رَسُولَاللَّهِ،… أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِن الصِّيَامِ؟فقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا).
وأجمعت الأمة: على وجوب صيام شهر رمضان، وأنه أحد أركان الإسلام التي عُلِمَت من الدين بالضرورة.
صيام الصِّبْيان
من الخير أن يُعَوَّدَ الآباء أبناءهم على الصيام قبل سنّ البلوغ حتى يتعَوَّدوه؛ لأن صيام الصبيان مستحب ولكن بدون قسرٍ أو إكراه، حتى يكبروا وهم يُحِبّون العبادة؛ لأنَّ مَنْ شَبَّ على شيء شَابَ عليه، ولما روي عن الربيع بنت معوذ قالت: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ».
وإذا كان الصبي ضعيفاً فإن الأولى أن يُترك ليجَرِّب الصوم بنفسه، فإن أطاق اسْتَمَرَّ وإِلاَّ فإنه سيتركه بنفسه، وعلى الوالد أن يمدح فيه قوة إرادته ويبين له حكم الشرع بلباقة، وسيكون استمراره فيه أو عدوله عنه باقتناع، وهذا منهج تربوي سليم.
الترهيب من الفطر في رمضان
لقد وردت أحاديث كثيرة تُرَهب من الإفطار في رمضان، نذكر منها قوله –صلى الله عليه وسلم -: «عُرَى الإِسْلامِ وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلاثَةٌ عَلَيْهِنَّ أُسِّسَ الإِسْلامُ ، مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً ، فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ».
وقوله –صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ».
الإنفاق … وفعل الخيــرات
ونحن نستقبل هذا الشهر المبارك يجب علينا أن نعلم بأننا لن ننال رضوان الله سبحانه وتعالى إلا بمحبتنا للمسلمين وبِرّهم ومساعدتهم وتقديم يد العون لهم، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وجاء في تفسير الآية السابقة: [{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة]، وكذلك قوله –صلى الله عليه وسلم -: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ, وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ, وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً ؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ومن المعلوم أن الإنفاق حين يكون في حالة اليُسر أو في حالة السَّراء يكون أمراً طبيعياً، لكن حين يكون في حالة العُسر أو في حالة الضَّراء فإنه يحمل دلالة مثالية على مصداقية الإيمان والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
شهر رمضان… في ظلّ الكورونا
يأتي شهر رمضان المبارك هذا العام والبشرية جمعاء تعيش أزمة جائحة كورونا، حيث يتسع الوباء يومًا بعد يوم، وقد تسبب ذلك في إصابة مئات الآلاف من البشر، كما حصد عشرات الآلاف من الأرواح، ولم تسلم من عواقب شرّه كل الفئات والأطياف من البشر.
لقد أَهَلَّ علينا هذا الشهر الكريم والموسم العظيم والضيف الرحيم، في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشها شعبنا المرابط، نتيجة استمرار الحصار الظالم، وانتشار هذا الوباء الفَتَّاك.
لذلك فإنّ الواجب علينا أن نستقبل هذا الشهر المبارك، بالمزيد من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نلتزم الحجر المنزلي للمساهمة في احتواء هذا الوباء، وأن نُقيم الصلوات في بيوتنا جماعة، ونُكثر من الدعاء في القنوت، ونسأل الله أن يكشف عن شعبنا وأمتنا والعالم أجمع هذا الوباء والبلاء، كما يجب علينا أن نتراحم ونتكافل، ونكون كما قال رسولنا –صلى الله عليه وسلم- (المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا).
تقبل الله منا ومنكم الطاعا… وكل عام وأنتم بخير
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com