الحكمـــة مــن الصـــــوم.. رؤيــــةإســـلامــيــــــة

د. إبراهيم نويري /
تباينت وتنوّعت الرؤى المتعلقة بالحكمة من العبادات والشعائر الإسلامية، وفي دائرة الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية نجد أنّ علماء الإسلام وفقهاءه قد انقسموا إلى فريقين، فريق يقول بعدم إمكان إدراك عقولنا المحدودة للحِكم والأسرار التي أودعها الله سبحانه في العبادات، ومن ثم فإن الأوْلى في هذا الأمر -حسب هذا الرأي – إنما هو الخضوع لمراد الله، وتنفيذ أوامره، والوقوف عند حدوده دون إرهاق للعقل ودفعه للوقوف على تلك الأسرار.. وفريق آخر لا يرى حرجا في البحث العقلي عن أسرار العبادات والحكمة منها، ولعل التوسط بين الرأيين هو الصواب، إذ إن معرفة الحكمة في كل شعيرة أو عبادة لا يمكن أن يفسد أو يؤثر على جوهر العبادة، فنحن نتعبد الله تعالى عن طريق الدليل الذي يتضمنه الأمر التكليفي الإلهي، وليس عن طريق الوقوف على إدراك الحكمة أو السر في كل عبادة من العبادات أو منسك من المناسك.
كما أن الوصول إلى بعض الحكم والأسرار العقلية في سائر العبادات الإسلامية قد يسهم في خدمة الدعوة الإسلامية، وتوسيع دائرة الامتداد الجغرافي والإنساني لهذا الدين.
ذلك أن العقل البشري تستهويه مثلُ هذه النتائج الحسية مما يرتبط بصحة الإنسان، أو بما استعصى علاجه من العلل، أو بما يلتمس منه مأمولا واقعيا في إصلاح سلوك فردي أو اجتماعي أو ما شابه ذلك وهو كثير.
وبالنسبة للصوم فقد تحدث علماء كثيرون مسلمون وغير مسلمين عن فوائده، وما يمكن أن يجنيه الإنسان منه من مكاسب.
يقول الأستاذ المرحوم فريد وجدي: “كان النّاس إلى زمان قريب يحسبون أن الصيام من الشؤون الخاصة بالأديان، ولكن لم يكد ينتشر تاريخ الطب بين النّاس، حتى علموا أن الصيام قد اعتُبر في كثير من الأمراض من مقومات الصحة الجسمانية، كما علموا من عهد أبقراط أنه عامل قوي من العوامل المنقيّة للجسم من سموم الأغذية، فإن الأغذية التي نتناولها بشراهة تحتوي على مواد دهنية، ومواد رباعية العناصر، لا تطيق البنية البشرية أن تختزن مقداراً يزيد على الحاجة منها، وإطلاق الحرية للإنسان يجعله يتناول كل ما يقع تحت يده، وكثيرا ما يصاب بسبب هذه الحرية بآفات مرضية، تكون وبالا عليه”.
والصوم ذو تأثير بالغ في تخفيف الأعراض التي تنتاب الأعضاء الظاهرة والباطنة، وتحويل محمود في حالة المريض يقوده إلى التخلص من الآلام والانحرافات، وحصة الروح من هذا التحويل لا تقل قيمة عن حصة الجسم، وقد استفاد الطب من ناحية الصوم، ما لم يستفده من ناحية العلاج بالعقاقير، ولكن أكثر المسلمين لا يأبهون كثيرا بالمستقبل، ولا يحسبون حسابا للشيخوخة.
والذي يبدو لنا في هذا الخصوص أنّ للصوم -في الإسلام – حِكماً أخرى أكثر أهمية حتى فيما يتعلق بالجانب الطبي والصحي، فالصوم يهذب النّفس البشرية ويلطف المشاعر ويسمو بالروح، وهذا بدوره أمر بالغ الأهمية من حيث انعكاساته على السلوك فتقوى وشائج القربى بين أفراد المجتمع الإسلامي، ويتذكر الغني الذي فتح الله عليه من فضله، أحوال وأوضاع إخوته الفقراء ممن يعيشون الفاقة والعوز، ويتطلعون إلى مساعدته وإسهاماته، وهكذا تتكامل الجهود وتقوى روح التكافل الاجتماعي، وتتحقق الخيرية والمودة بصفتها قيمة أصيلة من قيم هذا الدين العظيم.
وهكذا، فإلى جانب الفائدة التي يجنيها جسم الإنسان بالصوم ممّا يكون له الأثر الطيب والنتائج الحسنة على صحة الإنسان وعافيته، فإن الصوم يحقق أيضا أعظم الآثار نفعا على مستوى الروح والإيمان، لأن الصائم يكون مشدودا ومتعلقا أكثر بخالقه ورازقه، ومن ثم يكون مدفوعا بتلقائية يسندها الإيمان، إلى فعل الخير، والمساهمة الواعية في سد الثغرات الاجتماعية، عن طريق مراعاة أحوال الآخرين، ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين والفقراء من ذوي العوز والاحتياج والحرمان.
كما أن الصوم يكون فرصة ثمينة لدى كثيرين يراقبون فيها أنفسهم، فيعدّلون من بعض سلوكياتهم أو معاملاتهم، وهو مكسب ثمين قد لا يتحقق في غير رمضان.
إنّ الصوم نعمة وهداية ومنّة إلهية إلى بني البشر، وهو وإن يكن قد أفاد الإنسانية في مختلف مراحل تاريخها، إلاّ أنّ تلك الفائدة لم تبلغ العظمة والكمال إلا بتشريع فريضة الصوم في الإسلام. وممّا لا شكّ فيه أنّ قوله -جلّ وعزّ-: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ــ البقرة:183 ــ ينطوي على قراءات وأفهام وآراء مفتوحة على العقول وعلى العلم ومرئياته وفتوحاته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو سبحانه خير الوارثين. تقبل الله صيامكم وقيامكم وطاعتكم في هذا الشهر الفضيل المبارك.
والله وليّ التوفيق