قضايا و آراء

أسباب تسويف القضايا والنزاع هل هو لغياب القضاء؟ أم هو لتوريث الصراع؟/ محمد مكركب

– إن نظام الدولة في العالم عموما يقوم على ثلاث سلطات:

السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية؛ والمحافظة على قوة الدولة، وسلامة المجتمع مرهونان بقيام هذه السلطات بدورها كاملا. والفصل بينها واجب، ليسأل كل عن مجال تخصصه، فإذا قام التشريع على الكتاب والسنة، وقام القضاء على عدل الشريعة، وقام التنفيذ على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق القوانين الوضعية في مجال لاجتهاد فإن كل القضايا تُحَلُّ بسلام، ويحفظ الأمن والوئام. فالقضاء هو العين الحارسة، والحريصة على الحقوق كلها، والقضاء هو الصوت الصادع بأمر الله تعالى، والأذن الواعية التي تسمع شكوى المظلوم، فيهب القاضي ليقول كلمته في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولا يخشى في الله لومة لائم.

– والسؤال الذي نطرحه هو: هل السلطات التشريعية في البلدان الإسلامية تُشَرِّع وتَسُنُّ القوانين بما يرضي الله من كتاب الله؟ وهل القضاة يحكمون بما أنزل الله، وبما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ لأن من لم يحكم بما أنزل الله كان من الكافرين، الظالمين الفاسقين. وما ضاعت الحقوق وانتشر الفساد، وساد الباطل، إلا عندما غاب العدل في القضاء، وخالف القضاء شريعة السماء. فعن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة) أخرجه الترمذي. كتاب الأحكام. رقم:1322.

قال محاوري: ما هي الغرضية الداعية إلى التذكير بهذا الموضوع (القضاء) المعروف في العالم العربي بسلبياته ونقائصه ومشاكله، وأنتم تعلمون أن التقصير ليس في القضاء فحسب، وإنما في التشريع، والتنفيذ. ففي التشريع ما زالت بعض البلدان لا تسن قوانينها أصلا من الفقه المستمد مباشرة من الشريعة، في إقامة الحدود مثلا، وقد أجمع العلماء على أن إقامة الحدود أهم وسيلة لصيانة المجتمع، وحمايته من انتشار اللّصوصية والإرهاب الحرابي.؟ وفي التنفيذ لا تزال بعض الدول تقنن في دساتيرها أمورا ولا تنفذها..!؟ فلا تزال تباع الخمر في بعض المدن العربية علنا، وتقبل العري الكامل على شواطئها ولا تمنع، أي لا يوجد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولا يعملون بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب:59]، ورفضوا ترك الربا وهو محرم ولم يعوضوه بالحلال، مع أنهم لو عوضوه بالاستثمار، والمقايضة، والشراكة الأسهمية، والمرابحة، والتوفير القيمي، لحققوا أرباحا أكثر، وحظوظا أوفر. وبالمناسبة (أي قال محاوري): نشكر بنك البركة، وبنك السلام، على بركة أعمالهم وسلامتها.

قلت لمحاوري: قد تكون مبالغا في نقدك، وغاضبا على مجتمعك، ومهما يكن فإنني أوافقك على النقد، ولك كل العذر في أن تغضب غضب الأحرار. إن الهدف من التذكير بعدم تسويف القضايا النزاعية، هو ما يظهر في كثير من الأحيان. تسمع فردا أو جماعة في حي من الأحياء، أو في مؤسسة، ينادون، وأحيانا يسيرون في الساحات ويصرخون، مطالبين بحقوقهم في التوظيف، والمطالبة بأخذ أجورهم، أو حقوقهم في السكن. ويظل القضاء صامتا، والخصومات تزداد شنآنا وتعقيدا، ومشاريع الوطن تزداد تأزما وتجميدا. وأحيانا يُلْقَى القبض على مروجي المخدرات أو المختطفين، أو اللصوص والمختلسين، أو المنحرفين، الذين يعبثون بالقيم في جرائم الزنا. وتمر القضايا بردا وسلاما عليهم، ليعيد الخاطئون غَيْرُ المعاقبين  الكرة من جديد، والقضاء لا يبدئ ولا يعيد. إن سبعين إلى ثمانين بالمائة من أسباب الحروب الأهلية، والفوضويات التخريبية، وتكريس التخلف في البلدان العربية، هو في تقصير أو غياب القضاء الحق. فقد أخبر الله تعالى عن سبب فساد بني إسرائيل بأنهم لم يعملوا بما أنزل الله تعالى:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78] وفي الحديث الشريف، عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم] (الترمذي. كتاب الفتن.2169)

إن أهم وأقدس عمل بعد الإيمان والتربية إقامة العدل، ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..﴾ [النحل:90] وإذا ذكر العدل، ذكر القضاة، الذين فرض الله عليهم أن يقولوا للمحسن أحسنت، ويحفظوا له حقوقه. وأن يقولوا للمسيء أسأت، ويمنعوه من الظلم. ولهم في القرآن الموعظة الشافية، والنصيحة الصافية، والحكمة الوافية، والعبرة الكافية. ففي قصة ذي القرنين، الملك الصالح الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها، أقام إصلاحه على العدل، بعد التربية والتعليم. قال لله تعالى:﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:86/88].

 قال المفسر أحمد مصطفى المراغي: في قوله تعالى:﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم إن هم لم يقرّوا بوحدانيتي ويذعنوا لك فيما تدعوهم إليه من طاعتي، وإما أن تأمر بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام.

﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا أي قال ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: أما من ظلم نفسه فأصرّ على الشرك بربه فسنعذبه بالقتل، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة فيعذبه عذابا منكرا في نار جهنم ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا أي وأما من صدّق بالله ووحدانيته وعمل عملا صالحا في الدارين فله المثوبة الحسنى جزاء وفاقا على تلك الخلال الجميلة التي عملها في دنياه، وسنعلّمه في الدنيا ما يتيسر لنا. قلت وهكذا تعلم الحكام الصالحون أن أو واجب في إصلاح المجتمع هو إصلاح الرعية بتعليمهم الدين. فقد روى البخاري في صحيحه. أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن عدي فقال: “إن للإيمان فرائض، وشرائع، وحدودا، وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص” (البخاري. كتاب الإيمان.رقم:7)، ووجه الاستدلال بهذا الخبر. حرص عمر بن عبد العزيز على تعليم الناس الفرائض والشرائع والحدود ليعملوا بها.

والمطلوب بعد الالتزام بالعمل بشرع  الله، أن يمتاز القضاة بالحزم، بعدم تسويف القضايا، وهذا هو موضوع دراستنا الآن. فهذا سليمان عليه السلام يراقب أفراد رعيته، ويتفقد مشاريعه، ويسهر بالجد والحزم والاجتهاد على تسيير شئون الدولة، لا يغفل على الكبيرة ولا على الصغير، لا ينتظر حتى تأتيه التقارير المزيفة، أو الأخبار المغلوطة، أو حتى تقع الكوارث، فتنشأ اللجان بلا علم ولا إخلاص، ويُسْكَت عن صاحب الشأن للقيام بالواجب وهو القضاء، ليقوم بالتحري والتحقيق وتقرير ما يجب من الإجراء. قال الله تعالى مخبرا عن سليمان عليه السلام، وعن حزمه وعزمه، وعدله وجميل قضائه:﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ[النمل: 20/21].

فسليمان عليه السلام يتفقد شؤون الرعية وأحوال الملك ركنا ركنا، ومرفقا مرفقا، ثم يقضي بالحق، ويأمر بالتنفيذ في الوقت. وهكذا الحكم الصالح.

وقد قرأتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان حريصا على إقامة العدل. ففي صحيح مسلم. عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتشفع في حد من حدود الله؟] ثم قام فخطب، فقال: [أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها] (مسلم. كتاب الحدود.رقم:1688، قال الله تعالى:﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] .

ومن إقامة العدل وحسن القضاء لصيانة المجتمع وحمايته من الفساد، إقامة حد الجلد على من ارتكب جريمة الزنا من الفتيان والفتيات، وعدم جلد الزاني، أو الزانية، يعتبر من باب عدم قيام القضاة بواجبهم. وفي الموطأ. قال مالك: “الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها. فتقول: قد استكرهت أو تزوجت. إن ذلك لا يقبل منها. وإنها يقام عليها الحد. إلا أن يكون لها على ما ادعت بينة. أو على أنها استكرهت. أو جاءت تدمى، إن كانت بكرا. أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك. أو ما أشبه هذا.  قال: فإن لم تأت فيه بشيء من هذا، أقيم عليها الحد. ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك”. ألا لا يجوز مخالفة حكم من أحكام الشريعة، ولا يجوز تعطيل حد من حدودها، ولا يجوز إهمال قضية خصومة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com