اغتيال التاريخ/ بقلم: الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم
ما بال أقوام – من بني جلدتنا- وهم لم يملكوا مؤهل العلم، ولم يُرزقوا ملكة الفهم، ومع ذلك يجرؤون – بلا زاد ولا عتاد، على الخوض في علم من أخطر علوم البلاد والعباد، وهو تاريخ الجهاد والاستشهاد؟
أما درى هؤلاء، أنّ علم التاريخ تحكمه منهجية، هي التي تسمو به عن الذاتية، والحزبية، والمصلحية؟ وأنّ التاريخ شهادة، يُشترط فيها العدل، لأنها أحكام لا تصدر إلا عن ذي نزاهة وعقل، وصاحب أريحية ونُبل.
فكيف، سوّل للبعض، أن يُقدموا على الخوض في علم التاريخ، فنراهم، يسبحون في محيط لا يتقنون فيه فن السباحة، ويسيحون في ليل دامس، تحرم فيه السياحة؟
مأساة التاريخ في جزائرنا اليوم، هي أن يُقدم على كتابته، كل من يئس من العمل السياسي، أو من نبذه الفكر الثقافي الأساسي، أو من يحكمه الفشل في تحقيق طموح ما، وقد تجاوز العقد السداسي.
إنّ من علامات التوبيخ في كتابة التاريخ، ما يقدم عليه البعض، باسم كتابة المذكرات، من السطو والتجني على الشماريخ، فيُجانب الحقيقة، لأنه لا يستند إلى أية وثيقة، ولا منهجية له في إصدار الأحكام، ولا طريقة.
إننا نصطدم بهذا اللون من الغثاء فيما يدبجه بعض أدعياء الثقافة من مقالات، وبعض المحتكرين للسياسة من كتابات. فيرفعون-بأهوائهم- من يشايعهم في المنصب أو المذهب، ويشوهون صورة كل من يخالفهم في المطمح أو المكسب، لذلك نراهم يحجبون الشمس المضيئة، بغربالهم المهتري، ويختبئون خلف كل كذاب مفتري.
تلك هي حقيقة الوطنيين الصادقين مع أدعياء الوطنية، وذلك هو مصير المثقفين الأصلاء مع منتحلي صفة الثقافة؛ وواقع المجاهدين الأصفياء الأوفياء، مع المجاهدين الشرفاء، النبلاء.
فهذا الكم العظيم، من الشهادات التي أصبحنا نصطدم بها، في عالم العلم والعلماء، وفي ميدان الحكمة والحكماء، وفي مجال الكتابات الصفراء، هو ما يقض مضجع كل مؤرخ نزيه، وكل مثقف نبيه، وكل أديب، أو باحث، أو فقيه.
اجتمع أدعياء الفكر، والثقافة، ومحتكرو الإعلام والصحافة، وكل من ركبوا قارب الشهرة المزيفة، وما نتج من سخافة، اجتمعوا على قلب الحقائق، فتراهم- بلا حياء- يتجنون على القامات، ويحاولون –بلا جدوى- هدم الأهرامات، فيملؤون عقول الناس، بالهراء والترهات.
ذلك هو ديدنهم، مع العلم الذي فقدوه، ومع الجهاد الذي احتكروه، ومع العمل الوطني الذي عدموه فزيفوه، فبعد تشويههم بكل وقاحة، لبعض رموز الوطنية من أصحاب السعادة والسماحة، حسدا من عند أنفسهم، هاهم يتطاولون على المؤسسات العلمية العريقة، لجمعية العلماء وقاماتها، فيتهمونها، بلا حياء، بأنها وقفت ضد الثورة، ولم تُقدّم لها النصرة.
ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم عندما ينظرون في مرآة التاريخ، فتتراءى لهم أعمال الجمعية مضيئة كالشمس الساطعة.
فلو سُئل الطفل في ابتدائيته، والتلميذ في ثانويته، والباحث في صومعته، لو سئل أي واحد من هؤلاء، عن تاريخ جمعية العلماء، لفرش لك الأرض أدلة وحججا، منذ الدستور الحقيقي الذي وضعه الإمام عبد الحميد بن باديس في نشيده الخالد “شعب الجزائر مسلم” إلى اللآلئ المضيئة التي دبجها يراع فارس البيان والقلم، الإمام البشير الإبراهيمي، وما بين هذين القطبين من أعمال خالدة، داخل الوطن وخارجه، وكلها تشهد لجمعية العلماء، بما أعدته لثورة الجهاد النوفمبرية، من إعداد، واستعداد، وإمداد، إلى تزكية هذا الجهاد بالعباد، والعتاد، والإرشاد، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟
إن الجناة على التاريخ، أقل من أن نتصدى لهم، وفي مقابل هرائهم، وغثائهم، نقول لهم- بكل تواضع وثقة، وأمانة، هذه هي أفعالنا، وتلك هي أقوالهم، فليعرض الكل على ميزان ومرآة التاريخ، لنر أيها أثقل عملا، وأبقى مجدا، وتاريخا.
إننا نرثي حقا، للجهلة، الذين لا يعرفون حقائق التاريخ، ولا يفقهون، فقه جمعية العلماء، وما يحتويه من شماريخ، ومن جهل شيئا عاداه. نحن نحيل الجميع إلى الشهادات الصادقة، والوقائع الناطقة، عند العباد، وفي البلاد، وهي أوسمة تعلّق على جبين كل مثقف وكل جزائري، أما ما ينشر حول جمعية العلماء، ورموزها وأبنائها، من ترهات، فلن يزيد الجزائريين الأصلاء، وهم أغلبية شعبنا، لن يزيدهم إلا إيمانا، وثباتا وعزما. ذلك أن جمعية العلماء قد أزعجت ولا تزال تزعج بفضل ثباتها على الثوابت، وترسيخها لهذه الثوابت، في عقول أبناء وبنات الجزائر، من الأحرار والحرائر، أزعجت أعداء الثوابت وأعداء الله.
وأما القاسطون، المزيفون للحقائق، فإنهم أشبه ما يكونون باليائسين، الذين يريدون أن يعتدوا على العقل، ويغتالوا التاريخ، ويطفئوا نور الجزائر، بأقلامهم وأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره المرجفون. ومهما أرجف المرجفون، وأبطل المبطلون، فإن الشمس العلمية، الوطنية، الإصلاحية سوف تظل ناصعة ومضيئة، مهما كثرت الغرابيل، وتعددت الأحابيل، وإنّ جندنا لهم الغالبون.