رسالة خاصة من العالم المكين أبو الحسن الندوي…
أ. حسن خليفة
تناولنا في الشعاع السابق الإشارة إلى وثيقة مهمة، ضمن أدبيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وقد كانت ردود الفعل طيبة؛ وانخراطا في هذا النوع من الكشف عن بعض حقائق تاريخ حركة العلماء الإصلاحي الدعوي،نورد اليوم رسالة خاصة من العلّامة الكبير الشيخ الفاضل أبو الحسن الندوي رئيس الهيئة العلمائية في لكنؤ(ندوة العلماء ) ـ الهندـ وهو أحد أعلام وعلماء العالم الإسلامي، صاحب أفضال كبيرة في التوجيه والدعوة والكتابة والتأليف وخدمة الإسلام والعربية ، على مدار عقود طويلة ،وقد عرفته الجزائر من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي السنوية التي كانت تُعقد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.ومعروف عنه علمُه وتبحّره، وأخلاقه الرفيعة،وعيشه عيشة الزاهدين الذين تركوا الحياة وراء ظهورهم ـ تقبله الله في الصالحين.
كتب الشيخ الحَسني هذه الرسالة في رمضان 1375 هـ ، بعيد لقائه بالشيخ الفضيل الورتلاني في دمشق، وأرسلها إليه من بعدُ, نُشرت في كتاب «العالم المجاهد الجزائري الفضيل الورتلاني : صفحات من آثاره وشهادات العارفين بجهاده «(*).وهذا نص الرسالة كاملا:
«عزيزي الكريم وأخي في الله ، السيد الفضيل الورتلاني ، بارك الله في أعمالكم وتقبّل جهادكم ، وحياكم أطيب تحية، وبعد…
فلقد ازداد تأثري واشتدّ ألمي من قضية شقيقتنا الجزائر، بعد اجتماعنا الأخير، حتى وددتُ لو أني هناك ، في جبالها وسهولها أحمل البندقية،إن كان نفعي في حملها، أو أؤدي أي عمل مفيد ، يشرفني بالانتساب إلى المجاهدين ،ويحشرني في زمرتهم يوم القيامة. وقد يبدو هذا الذي أتمناه أنا والمستضعفون من أمثالي ليس بالأمر المهم الذي يجعل لقضية الجزائر النصر والنهاية، لأن عصب الحرب في كل زمان ومكان هو المال الذي لا يملك منه أمثالي ما تقام به الحروب وتدفع به الجيوش الجرارة ، هذا صحيح ،ولكن الأصح منه أن القليل من المادة بيد مؤمنة ثابتة مستميتة أقوى بألف مرة من كثير ها في يد حريصة على الحياة ، مرتجفة متخاذلة ،والشاهد على ذلك اليوم قائم في الجزائر محسوس.
أما في ماضينا المجيد فأيام محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيام أصحاب محمد كلها شواهد كالنجوم في ظهورها وإشراقها ،ويؤسفنا أن المال موجود عند معشر المسلمين بكثرة مفرطة ،ولكنه في أيد سفيهة تسوقها ـ في الغالب ـ الشهوات ،ويوجهها الشيطان نحو الهاوية،ولكن قديما كان الناس يُنصرون بفقرائهم ؛ إذ كانت النفوس سليمة ؛ لأن النصر في الحقيقة إنما هو بيد الله صاحب هذه النفوس المطمئنة التي تتمنّى الموت في سبيله، بقدر ما يتمنّى الحياة أولئك المستعمرون الجبناء وأولئك المترفون البخلاء ، وإني لأحس من أعماق قلبي بأن ستمائة مليون من المسلمين إلا قليلا من المترفين ، ونسبة كبيرة من أحرار والغرب والشرق يحملون مثل عواطفي أو أحسن َ منها.
وأعتقد أن هذه الثورة من العواطف البريئة ، قوة لا يجوز الاستهانة بها مطلقا، فمفاتيح السماء إنما هي في سرّ هذه القلوب المنكسرة لربها، وصاحب السماء إنما أمره إذا أراد شيئا ـ في الأرض أو غير الأرض ـ أن يقول له «كن فيكون». هذا وأكون شاكرا لأخوّتك وممنونا لو تفضلت َ فأبلغت على لساني الضعيف تحيات أهل الهند والباكستان جميعا وتقديرهم البالغ لأؤلئك الذين يؤدبون البربرية الفرنسية في بقاع الجزائر الكريمة،والذين تذكرنا أعمالهم العجيبة بأيام محمد صلى الله عليه وسلم وبأيام الصحابة البررة. أجل إذا كان هناك في أيامنا خوراقحقا ،فإن هذا الذي يصنعه إخواننا الجزائريون ـ في قلة عددهم وعُددهم مع كثرة العدو الفادحة فيهما معا ـ إنما هو من أعلى طراز في الخوارق وأغلاه.
ولا عجب في شأن أهل الإيمان ، فقديما قال فيهم ربهم «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين «(سورة البقرة /249).انتهت الرسالة.
وبعدُ
فجُل بفكرك في هذه المعاني الربانية التي سطرتها يد هذا العالم الرباني والداعية العرفاني لتعرف كم كانت الجزائر حيّة حاضرة ،عزيزة غالية على قلوب المسلمين علمائهم وعامتهم، وكم كان لجهاد وجهود تلك الثّلة من العلماء والدعاة من جمعية العلماء خاصة ..كما كان لجهودهم من ثمرات طيبات أوصلت قضية الجزائرإلى كل مسلم تقريبا…وأما المعاني الروحية والدينية العميقة وربط حاضر المسلمين المجاهدين في الجزائر ضد الطغيان النصراني بجهاد الصحابة البررة فممّا يجب ترسيخه وتعزيز رصيده الإيماني التاريخي الحضاري وليس العكس ، كما يسعى إلى ذلك بعض من باعوا عقولهم ونفوسهم وأرواحهم للعدوّ أو للشيطان.
تلك كانت نظرة عالم جليل للجزائر وثورتها وشعبها وجهادها…وأمثاله كُثر، ذكرنا مرارا أنهم في حاجة إلى التكريم ولو بالتذكير حفظا للودّ وأداء لحق الوفاء..فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ولا يفوتك حديثه عن المال وأنه العصَب، وأنه ـ للأسف ـ في يد المستهترين،والتاريخ يعيد نفسه، فالمال في مختلف بقاع العالم الإسلامي ، لمّا يزل في أيد ماجنة فاجرة تعبثُ وتنشر الشرّ والفجور وتحارب الإسلام سرّا وعلانية، وتنفقه في اللهو والمحرّمات فيما يموت المسلمون جوعا وفقرا.ولله الأمر من قبلُ ومن بعد.
وإلى وثائق أخرى إن شاء الله.
(*) تأليف الدكتور محمد العيد تاورتة، دار اسكندر للطبع والنشر ، قسنطينة، 2011 (ص 220)