حين يكون الحوار ملغوما!/ منصف بوزفور

لا يكاد يقدم المحاور الغربي جديدا فيما يعزوه حوارا مع الآخرين؛ فالحوار بالنسبة له هو فرض شكل معيّن من التحقيق والتقويم، ومناهج النقد.
وخرج الإستشراق من المناخ الثقافي للّاهوت الغربي بكل مكوّناته، وتأسس واستمرّ ضمن إطار المناخ الاستعماري، وبدأ خطواته باتجاه العقل الأوروبي، ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام.
ولذا جاءت معظم الدراسات والكتابات باللغات الأوروبية، وجاءت جلّ هذه الدراسات -إن لم نقل كلها- محكومة بدوافعها وأهدافها، بعيدة عن التزام الموضوعية والعلمية، لأن التزام الموضوعية سوف يفوت غرضها.
إن الإنتاج الفكري والاستشراف بعضا منه هو في الحقيقة يمثّل الوليد الطبيعي والشرعي للثقافة التي تنتجه، وبالنسبة لعمر عبيد حسنة أن المفكر هو إلى حد بعيد رهين الثقافة التي تنتهجه والتي ينشأ فيها، لذلك لا يستطيع أي مستشرق أن يتناول موضوعاته دون أن يخضع للقوالب والحدود الفكرية والعلمية المفروضة عليه مسبقا.
وهكذا يكون من الصعوبة بمكان وضع حدود فاصلة وواضحة بين الإستشراق والتبشير والاستعمار.
فما عسانا أن نقول عن ثقافة المحاور الأوروبية؟
هل بمقدور”جان بول شارني” أو “ألبيرتو بويلا” أو آخرين أن يقدموا أكثر مما قدّموا؟
فإذا كان المستشرق قد بدأ الإستشراق لديه خطواته الأولى باتجاه العقل الأوروبي ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام.
فحسب عمر عبيد حسنة كانت الترجمات الأوروبية المبكّرة لمعاني القرآن، والسيرة والدراسات التاريخية والاجتماعية والتراثية في المعاهد والجامعات والمراكز العلمية التي أنشئت لتخريج القناصل والسفراء والكتبة، لتأمين مصالح بلادهم، وتوفير المعلومات عن بلاد العالم الإسلامي، وإقامة مراكز لدراسة هذه المعلومات، وتحليلها، لتكون بمثابة دليل للاستعمار.
ومثل هذا الإستشراق لم يقتصر على مخاطبة العقل الأوروبي، كما لم تقتصر كتابات المستشرقين ودراساتهم على حماية الأوروبي من اعتناق الدين الإسلامي.
واليوم يمثّل علماء الاجتماع والنفس والتربية الصورة الأحدث للمستشرقين، والصورة التي ترسمها وسائل الإعلام اليوم، والقرارات التي يتّخذها أصحاب السلطان، والتي تخص العالم الإسلامي، هي من صناعة علماء الاجتماع، وتسويق الخبراء.
كما أن أهداف وأساليب الإستشراق قد تطوّرت تطوّرا مذهلا، واهتمّ المستشرقون بالتشكيل الثقافي للأمة المسلمة في ضوء رؤية معينة، وخطة مدروسة، لذلك ولجوا جميع الميادين وحاولوا الوصول بالتحكم بالموارد الثقافية كلها.
لقد كان “جان بول شارني” يتحدث عن الأسرة الثقافية الدولية، لكن من دون أن يعرف افتراضاتها الأولية بحيث ينطلق الحوار.
بل الأسرة الثقافية الدولية في حد ذاتها تطرح تعبيرا ملغوما، وقد ظهر في السنوات الأخيرة تعبير العولمة الثقافية، فغاب مفهوم الحوار ليحلّ بدله جدل عقيم يبشر بنهاية الإنسان ونهاية الدولة المحلية ونهاية التاريخ.
ثم إن العولمة الثقافية هذه تحركها سياسات وسياسيون، وما كان للسياسي أن يقدم للثقافة وللمجتمع العالمي إلا ما يخدم مصالحه، فالمثقف والدارس الحضاري والمحاور لم ترصد له مكانته بعد.
ولقد ذهب الدكتور سليمان إبراهيم العسكري في مقال له بعنوان “حلم مجتمع المعرفة العربي…إما التحقق أو الهاوية؟”. أن المعرفة لم تعد بضعة كتب أساسية وإضافات متفرقة، كما كانت منذ عقود، فثمة انفجار معرفي حقيقي يولّد بدوره انفجارات معرفية إضافية في كل يوم وساعة، وهي بنية فوقية تتغذّى على بنى أخرى تحتها ومن حولها، سياسية بالدرجة الأولى واقتصادية واجتماعية.
وفي مجال الاقتصاد المواكب لمجتمع المعرفة يحتاج العرب إلى تطوير وجود أقوى في الاقتصاد ويدفع بالاستثمار الجديد ـ استثمار المعرفة، حيث القيمة المضافة أعلى وأسرع نموّا.
فإذا كان قصد العسكري بأنه على العرب توثيق عرى التفاعل والتفاهم مع الثقافات الإنسانية كافة بما يخدم الثقافة العربية، فنحن مع دعوته، أما إذا كانت المعرفة التي يقصدها هي معرفة الإنترنت ومعرفة الاتصال فقط؛ فهو أمر يخدم رأي “شارني” الذي يرى أن الغربي أستاذ وعلى الدوام لمثقف الكسكس والمشوي..!