ما قل و دل

لابد لليل أن ينجلي- قد يكذب التاريخ/ محمد الصالح الصديق

كانا يتحدثان بالقرب مني عن شخصيات سياسية في الشرق العربي، وأنا أتصفح مجلة “الفكر” التونسية، فقال أحدهما:

يقولون إن التاريخ ذاكرة الزمان، وهذا صحيح؛ ولكن هذه الذاكرة كثيرا ما تجمع النفايات والأوشاب والأوساخ. فقال له الآخر: ولكن إلى وقت ما، ثم لابد أن تلفظها وتطرحها وتقذفها بعيدا، أو تعوضها بالصحيح الصالح؟ قال هذا وهو ينظر إليّ بعينين فيهما من الرغبة في مشاركتهما في هذا الحديث، وعزز ذلك بقوله: أليس كذلك يا أستاذ؟

فقلت له: نعم، إن ذلك صحيح.

إن التاريخ كثيرا ما يقلب الحقائق رأسا على عقب، ويضع المفاهيم في غير أماكنها، ويسمي الباطل حقا، والفاسد صالحا، والجاهل عالما، والمنافق مخلصا، والضال مهتديا، وذلك لطغيان الحكم والاستبداد، ولكن لابد لهذا الظلام أن ينجلي يوما، ولهذا الوضع أن ينتهي، فتصحح المفاهيم، وتجري الأمور في مجاريها الطبيعية.

فقال أحدهما: هل لهذا الوضع مثال في حياتنا الراهنة؟

فقلت له: بل هي أمثلة كثيرة تعرفها الأيام في مختلف البلدان العربية التي نحن منها؛ ألم يسجل التاريخ في صفحاته العريضة أن “فاروق” على وجه المثال ظِلّ الله في أرضه، وخليفة ابن الخطاب في عدله، يحمل المصحف للحقن والسيف للباطل، الدين سبيله، والعلم دليله، والقرآن مناره، وأشرق صفحات تاريخ مصر مهده وأيامه؟

هذا قليل جدا من كثير جدا مما كان يقال فيه وسجله التاريخ في صفحاته.

ثم إن هذا الرجل نفسه وعينه هو الذي قيل فيه – بعد أن أقبل الفيض الإلهي ليطهر ما على الأرض من دنس ورجس ويجرف تياره القوي كل ظلم وبغي: الظلم المستبد، المعيل للاستعمار البريطاني، الحاكم الجائر أحمق، الطاغي الأهوج، المقهور بسلطان أسفله.

أما ما قيل عن فساده وأخلاقه الدنيئة السافلة، فلا يتسع إلا لمجلد ضخم، وحسبي أن أقدم هنا ما ذكره أحد أبناء مصر في ذلك، وهو الكاتب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه “في ضوء الرسالة”: كان ملكا على مصر يوم 26 يوليو سنة 1952م، وكان آية من آيات إبليس في الجرأة على دين الله وعلى حرم الناس، بلغ من جرأته على الله أنه كان كما حدثني أحد بطانته المقربين إليه، إذا أخطرته رسل الملك أن يشهد صلاة الجمعة خرج إليها من المضجع الحرام، فصلاها من غير غسل ولا وضوء، وأداها من غير فاتحة ولا تشهد، وكان يقول:” ما أخافه أن يغلبني الضحك وأنا أتابع الإمام في هذه الحركات العجيبة”(1).

وبلغ من فساده وجرمه وجرأته على المحرمات أنه كان يغتصب المرأة ويقتل زوجها.

هكذا إذن شأن التاريخ أحيانا يكذب، ويعلي السافل ويسفل العالي، وينكر الحق، ويؤيد الباطل، ويقول للمحسن أسأت وللمسيء أحسنت.

ولكن ذلك لا يدوم، فلسوف تعود الشمس إلى مشرقها، ويزول الظلام، وتنكشف السحب، ويرتفع لواء الحق، سنة الله في كونه ولن تجد لسنته تبديلا؛ قال تعالى:{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): ص118

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com