هل نتجه نحو عالم بلا مدارس وجامعات؟

أ.د. مولود عويمر /
عندما صدر كتاب “مجتمع بلا مدارس” للعالم التربوي النمساوي إيفان إيليتش لم يصدق ذلك كثير من المهتمين بالشأن التربوي والفكري، فكيف يمكن أن نعلم الناس ونربي الأولاد دون أن يجلسوا في أقسام في حضرة المعلم أو المربي أو المدرّس الذي يقف أمامهم بشحمه وعظمه فينصتون إلى دروسه أو محاضراته ويحفظون أقواله ويتابعون حركاته، ويتفاعلون مع أسئلته؟
إن الأستاذ بعطائه المباشر، والمنهاج المقرر والتلاميذ والطلبة بحضورهم البدني والعقلي، والإدارة بحزمها ومرافقتها، والقسم وما يحتويه من أثاث، يمثلون الشروط الأساسية في عملية التعليم والتربية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال نقصان واحد من هذه العناصر المكوّنة لهذه الرسالة النبيلة.
هذه هي الفكرة السائدة حول موضوع التعليم الإلزامي، أما التطوير فلن يشمل إلا تحسين هذه العناصر الخمس بدعمها بأحسن ما توصل إليه العلم والتكنولوجية من الوسائل والإمكانات التي تساعد الكل على الأداء الحسن ورفع المستوى والنجاح المنشود. أما الاستغناء عن بعض العناصر فهذا ما لم يخطر بالبال.
غير أن العالم يتغير بسرعة أحيانا بمحض إرادة الناس وأحيانا أخرى مجبرين على مجاراة التغيير بخاصة لما يتعلق الأمر بما يعني الإنسان بشكل مباشر في صحته أو عمله أو بيئته…، فإما أن يتأقلم مع الوضع الجديد فيواصل رسالته، وإما يقاوّم لفترة معينة ثم يستسلم ليعود إلى الصف أو يستقيل ويختار المعاش.
ولا شك أن التغيير الهادئ المنبع من الذات لم يعد متاحا دائما في عصرنا الراهن، فالعولمة الزائدة تفرض شروطها على الضعيف، واليوم صارت تفرضها على الجميع بما فيهم الأقوياء الذين صاروا بدورهم ضعفاء أمام البلاء العالمي الجديد!
واليوم، نجد أنفسنا مندفعين إلى خيارات لم نكن نندفع نحوها لو كنا مخيرين، فنحن نسير مع السائرين، ولا نعرف الوجهة، ولا نملك الزاد، ولا ندرك نهاية الدرب، ولكن إذا لم نسر بقينا وحدنا على حافة الطريق وسرنا فريسة سهلة لكل عدو قادم!
إن التعليم الالكتروني وسيلة فرضتها الظروف العالمية الجديدة لمواصلة البرنامج المقرر وإتمام العام الدراسي الحالي على خير إلى أن تعود الأمور إلى مجاريها بعد فرج قريب. وإذا كان هذا هو المقصد وليس غيره فإن الأساتذة والمعلمين سينخرطون مسرعين في هذه المعركة كما انخرط الأطباء والممرضون في المعركة الطبية لمحاربة الوباء.
ولم يتخلى الأساتذة والمدرسون عن مهمتهم الرسالية في كل الظروف، فصحيح أن المدارس والجامعات أغلقت أبوابها، إلا أنهم استمروا في إعطاء توجيهاتهم ونشر المعارف والفضيلة بالوسائل الأخرى المتاحة مثل كتاباتهم في الصحف والمجلات والمدوّنات والمواقع الالكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي.
وسيواصلون مهمتهم التعليمية والتربوية بكل تفان بالطرق الجديدة لتكوين أجيال من أهل العلم والفكر لأنهم مدركون تمام الإدراك أن معركة الحياة هي صراع بين العلم والجهل، والذين يواجهون في كل مرة العدو الظاهر والباطن في الصفوف الأولى هم العلماء بما ينتجونه من الاختراعات والاكتشافات، وما ينشرونه من المعارف والأفكار الحية التي تساعد أصحاب القرار على اتخاذ القرارات الصائبة وتمد الجميع بالقوة والعزيمة للتغلب على المحنة.
إن المسؤولية جماعية ومشتركة من أجل الانتصار على الأخطار التي تهدّد حاضرنا، ومن أجل التغلب على التحديات التي تهدّد مصيرنا؛ لكن الذي يخشاه المرء بخاصة في العالم الغربي هو الإبقاء على هذا النمط من التعليم والتراجع عن التعليم الإلزامي القائم بذرائع مواكبة العصرنة، وشح الموارد المالية والاقتصادية فتحرم ملايين من التلاميذ والطلبة في العالم من التحصيل العلمي الجماعي داخل الأقسام والجامعات والاحتكاك بالمدرسين ومجالسة الأساتذة الذين أحيلوا على التقاعد أو أجبروا على البطالة، أو تحويل هذه المرافق التعليمية والترفيهية إلى مناطق صناعية أو تجارية أو سياحية بذريعة عدم حاجة التعليم والتربية إليها.
وهكذا – لا قدر الله- يعيش الإنسان مرة أخرى مع تغوّل النظام الرأسمالي الذي عوضا أن يصحح أخطاءه ويعدّل خياراته، ويعترف بذنوبه، ويتوب عن جشعه المفرط الذي ساهم بشكل كبير في الشقاء الاجتماعي للإنسان المعاصر، وتدنيس فطرته، ودمار الطبيعة وتلويث البيئة، فإنه يقضي على آخر المكتسبات الاجتماعية والحضارية (المدرسة/ الجامعة) التي أحرزتها الإنسانية بشق الأنفس خلال القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين.