في رحاب الشريعة

فـي ذكـرى الهجــرة النبويـــة الشــريفـة : بقلم الشيخ الدكتور/يوسف جمعة سلامة

يجئ هلال المحرم من كل عام، ومع شعاعه الفضي يذكر المسلمون ساعة الشدة والعسر، ساعة النضال والنصر، والإفلات من الأَسْر، تلك الساعة التي بلغ فيها الشرك غايته في إيذاء المسلمين وإيذاء الرسول الأمين محمد –صلى الله عليه وسلم-، فيجدِّد في دنيا الإسلام ذِكرى من أروع الذكريات، وأجلِّها خطرًا، وأعظمِها أثرًا في مسيرة الإنسانية، إنها لحظات حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية وفي عمر الإنسانية، حدَّدت المسار، وأقالت العثار، ومضت بالدعوة إلى الغاية المرجوة، وكلّ خير أصابه المسلمون، وكل رشاد ظفرت به البشرية منذ هاجرت رسالة التوحيد إلى يثرب، إنما كانت ثمرة طيبة من ثمار هذه الهجرة المباركة، فبعد أن كان المسلمون يعيشون في المجتمع المكي تحت صور شتى من الإرهاب والتعذيب صار لهم وطن ودولة وكيان.

وفي هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهجرة أصحابه الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة عِبَرٌ ناطقة تستفيد منها الأمة عبر الدهور، إذا أرادت أن تكون وثيقة الصلة بعناصر القوة التي تستعيد بها ما كان لها من سؤدد وعزة وكرامة بين الشعوب والأمم، وسنتحدث عن مواقف من الهجرة :

الهجرة فجر جديد

لقد كانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تمحيصاً للمؤمنين، واختباراً صعباً اجتازوه بنجاح كبير، حيث فارقوا أرضهم وديارهم وأهليهم استجابة لأمر الله، وإعلاء كلمته، كما كانت الهجرة إلى المدينة المنورة إيذاناً بفجر جديد في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام دولة عزيزة الجانب.

  • فقد كانوا في مكة أفراداً، فصاروا في المدينة دولة.
  • وكانوا في مكة مضطهدين، فصاروا في المدينة مكرمين.
  • وكانوا في مكة فاقدي الأمن، فصاروا في المدينة آمنين.
  • وكانوا في مكة لا يردون عن أنفسهم أذى، فصاروا في المدينة يكيدون من كادهم، ويرهبون من يعاديهم.
  • كانوا في مكة يعبدون الله سراً، فصاروا في المدينة يرفعون الأذان عالياً مدوياً خمس مرات في اليوم لا يخافون إلا الله – عز وجل -.

هذه هي هجرتهم، تحّول عظيم صاعد في سماء الدعوة، وعند دراستنا للسيرة النبوية، نجد أن الهجرة كانت رحمة من الله لعباده، حيث اشتملت على دروس كثيرة عميقة الدلالة دقيقة المغزى، بعيدة الأثر، ومن واجب الأمة الإسلامية الاستفادة من هذه الدروس عن طريق تذكرها والتأثر بها، وخير احتفال بذكرى الهجرة اليوم أن نعود إلى هذه القيم التي تتطلب منا أن نرتفع بها من المدارسة إلى الممارسة.

حنين الرسول إلى مكة

هاجر الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى يثرب، وعلَّم الدنيا كلها حب الأوطان والأماكن المباركة والوفاء لمسقط الرأس عندما ألقى نظرة الوداع على مكة المكرمة وهو مهاجر منها، وقال كلمته الخالدة:‏(وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)(1)، وكان فراق مكة عزيزاً على الرسول – صلى الله عليه وسلم – والصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – كما ذكرت ذلك كتب السيرة،  فهذا واحد منهم اسمه أصيل جلس يتكلم عن مكة فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: (يا أصيل دع القلوب تقر فلا تذكرنا).

أجل فما من الوطن بد، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى، في ظله يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة، وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل، وسيادة العقل فيهم هي الغاية، ووفرة أسباب العيش هو القصد مما يسعون ويكدحون، ولكن الوطن هو المهد الذي يترعرع فيه ذلك كله، كالأرض هي المنبت الذي لابد منه للقوت والزرع والثمار.

هجر المعصية للطاعة

وهذا درس نتعلمه من ذكرى الهجرة المباركة وهو هجر المعاصي ومحاربة النفس والشيطان، فهذه الهجرة دائمة في مختلف الأزمنة والأمكنة، فقد جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ “(2).

فعلى المسلم أن يهجر المعاصي بجميع أشكالها من ربا، وغيبة، ونميمة، وأكل لأموال الناس بالباطل، وأن يفتح صفحة جديدة مع ربه، وكل ما أصاب المسلمين من ذل وضعف ليس تخلياً من الله عنهم، بل نتيجة حتمية لارتكاب المعاصي “من عرفني وعصاني سلطت عليه من لا يعرفني“.

الثقة بالله والأخذ بالأسباب

لقد أخذ رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بكل الأسباب في حادثة الهجرة، فاختار الطريق، واختار الرفيق، واختار من يأتيهما بالأخبار، والطعام، ومن يمحو آثار الأقدام…الخ، لذلك كان على ثقة كاملة بأن الله معه وناصره، وهذا يتجلى في موقفه  – صلى الله عليه وسلم –  وهو  في الغار عندما أَحَسَّ أقدام المطاردين تقترب، وعندما بدأ أبو بكر – رضي الله عنه-  يقلق ويشعر بالوجل، وكان يقول:( يا رسول الله لو نظر أحدهم بين قدميه لرآنا )، ففي الغار: قطع أبو بكر ثوبه مزقاً، ثم سَدَّ بها جحور الغار حماية للرسول – صلى الله عليه وسلم – من الحشرات، وكان أبو بكر أشدَّ خوفاً، منطلقاً من قاعدة: أَنَّ قتل الرسول – صلى الله عليه وسلم – قتل للأمة كلها، أما هو فواحد، عند ذلك كان النبي – عليه الصلاة والسلام – يُسَكِّن روعه ويبدد قلقه، قائلا له: ( مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا، لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )(3)، وفي ذلك تنبيه للمسلمين بضرورة الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في كل أمرٍ من أمورهم، ولكن هذا الاعتماد لا يُنافي الأخذ بجميع الاحتياطات التي جعلها الله في هذا الكون أسبابا، ولابُدَّ أن نعلم أن الأخذ بالأسباب هو جوهر التوكل على الله تعالي .

فعلينا أن نتوكل على الله دائماً، وأن نأخذ بالأسباب، فنحن أمة عظيمة حَبَاهَا الله بمقومات العزة والتمكين.

بين الأمس واليوم

فما أحرى شباب الأمة، ورجالها، ونساءها أن يتأسوا بالهجرة، ودور أبي بكر في وفائه، وعليّ في شجاعته وبلائه، وبعبد الله بن أبي بكر في دهائه، وعامر بن فهيرة في كتمانه، وعائشة وأسماء في ثباتهما.

وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! فذكرى الهجرة تطالعنا اليوم، ونحن نواجه قوى الشر والعدوان وهي أشد ضراوة تريد أن تقضي من جديد على دعوة التوحيد، فالعيون التي راقبتْ محمداً -عليه الصلاة والسلام- وَبَيَّتَتْ له هي نفسها العيون التي تكيد لأتباع محمد –صلى الله عليه وسلم- في هذا الزمان، وهي نفسها التي تعمل على تهويد المدينة المقدسة بشتى الطرق والأساليب، وذلك من خلال تغيير أسماء الشوارع، وتزييف المناهج التعليمية، وإنشاء القبور الوهمية، والتضييق على الشخصيات الدينية والوطنية، وطمس جميع المعالم الإسلامية والمسيحية، وهدم بيوت المقدسيين وإقامة الكتل الاستيطانية في محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة لصالح اليهود، كما تعمل على فرض السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك وتنفيذ مخططاتها الإجرامية في التقسيم الزماني والمكاني تمهيدًا لهدم المسجد الأقصى المبارك وإقامة ما يُسمى بالهيكل المزعوم على أنقاضه لا سمح الله، وما اقتحاماتهم المتكررة للمسجد الأقصى المبارك إلا دليل واضح على ذلك، فليكن لنا في رحاب الذكرى مَدَدٌ يُوثق صلتنا بالله، ويربط على قلوبنا في معركة المصير، حتى نصون الحق، ونسترد الأرض، ونطهر القدس {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(4).

هذه بعض العبر والدروس التي ينبغي لنا أن نستلهمها من ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فذكرى الهجرة متجددة مع الزمن وفيها من الدروس ما يتفق مع كل عصر وزمان، ففيها عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش :

1- أخرجه الترمذي.

2- أخرجه البخاري.

3- أخرجه البخاري.

4- سورة الروم الآية (4-5).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com