متى تعالج الدولة اختلالات الوضع التعليمي؟/عبد القادر فضيل
سؤال أراه مدخلا ملائما للحديث عن إشكالات التعليم وبه نحرك اهتمامات المسؤولين وندفعهم إلى النهوض بمسؤولياتهم تجاه ما يعانيه نظام التعليم، إن الوضع التعليمي الذي نعايشه بحاجة إلى مراجعة دقيقة وعلاج شامل لمختلف مظاهر الاختلال التي أصبحت ملازمة له ومؤثرة في سير التعليم، فالمتتبع لأوضاع التعليم، وللعلاقة التي تربطه بما تقوم به الدولة يكتشف أن الدولة لا تمارس كل مسؤولياتها في هذا المجال، لأنها تخلت عن جانب من مهامها، وتركت ذلك للقائمين على تسيير شؤون الوزارة، فهم الذي يتولون كل شيء: الجانب الفكري والجانب السياسي بدون أن يرجعوا في ذلك إلى الآراء والتوجيهات التي تؤكد عليها الدولة والتي تساير وجهة الأمة: كما يكتشف المتتبع للأوضاع عددا من الأمور التي تحتاج إلى موقف سياسي وتربوي معالج للوضع. من هذه الأمور:
1-ظاهرة الغموض المتبع في التوجيهات، والارتجال في اتخاذ القرارات.
2-عدم تطابق الأفعال مع الأقوال في السياسة المتبعة، فما يرد في تصريحات الوزيرة أمر مهم في طرحه وفي غاياته، ولكن ما ينفذ في الميدان أمر آخر.
3- مسألة ظاهرة الاكتظاظ: اكتظاظ عدد التلاميذ في الحجرات الدراسية، تلك الظاهرة التي بلغت حجما عدديا لا تتحمله حجرات الدراسة في مختلف المراحل، مما عقد جهود المعلم، وفرض على القائمين على التعليم وضعا صعبا في تسيير النشاط المدرسي، هذه المشكلة لم تستطع الدولة حلها أو معالجتها، والمطلوب اليوم هو تجنيد مرافق الدولة وإمكاناتها في مجال تطوير سياسة العمران، وتقنين الخريطة المدرسية، وتوظيف مصالح التخطيط لمسايرة الوضع السكاني، وتنظيم الأحياء وأساليب الخدمات التربوية.
4-الإجراءات المسيرة للقطاع لا تحدد هدفا واضحا، ولا تعالج وضعا غير ملائم فالتجديد الذي تنادي به الوزيرة لا يتوخى تغييرا إيجابيا، فما يتناوله لا ينطلق من فكرة تربوية صحيحة، ولا يستند إلى رأي علمي متفق عليه.
وما عشناه في السنة الماضية بخصوص فكرة الجيل الثاني يؤكد أن ما يراد طرحه في مجال التجديد لم ينطلق من فكرة مستخلصة من الدراسات، ولم يستند إلى رأي يقره العلم، وتسنده الأبحاث، وهذا ما سنعيشه هذه السنة مع الكتب الجديدة.
هذه هي الأمور التي تم اكتشافها من خلال تحليل الأوضاع القائمة، والمجال الذي جعل النظام يعايش هذه الأمور هو تخلي الدولة عن ممارسة أهم مهامها في مجال التفكير والتوجيه، وتحديد الأفكار الهادفة إلى التطوير، فالدولة عندنا وفق هذا التحليل لا تمارس كل مهامها في المجال الفكري والسياسي فهي منشغلة بالجانب المادي: توفير المدرسة والمعلم والكتاب وما عدا ذلك تركته لغيرها، كما شرحت إذ لم يعد اهتمامها موجها لممارسة الجوانب الفكرية، وتحديد الرؤيا السياسية التي يجب أن تتبع في سير القطاع مع أن هذه الجوانب هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم الهادف.
وما يُطلب من الوزارة أن تستلهم في عملها وجهة الأمة السياسية والتربوية، وأن لا توجه جهودها لما يدفعها إليه تفكيرها وتراه ملائما لقناعتها؛ لأن هذا يتجاوز صلاحياتها كهيئة منفذة، وهنا ينبغي إقرار حقيقة قد لا ينتبه إليها الكثير من الناس وهي:
أن التربية سياسة أمة وليست سياسة قطاع، ومسؤولية دولة وليست مسؤولية وزير، لأن مهمة الوزارة ليست هي وضع السياسة، إنما هي تنفيذ السياسة، فالوزارة هيئة مكلفة بالتنفيذ، وليست هيئة للتفكير، قد تمارس التفكير ولكن في حدود ما تطرحه الأمة، وتحدده السياسة، ولكنها ليست هي الهيأة المخولة لتحديد السياسة، فالتفكير يسند إلى الهيئة العليا التي تجعلها الدولة المرجع الذي يعود إليه النظر في قضايا التربية، وضبط الوجهة الفكرية التي تشرح سياسة الأمة، أو تحدد أركانها، إن ابتعاد الدولة عن هذه المهمة جعلها لا تتدخل علميا ولا سياسيا في تحديد ما يجب أن يلتزم به المسؤولون عن القطاع، فلم تحدد لهم الجوانب التي يجب أن لا يتجاوزوها وتوجههم إلى انتقاء الأفكار والمواقف التي تسهم في النهوض بالقطاع والملاحظة التي يجب ذكرها هي أن الوزارة لا تعتمد في قراراتها وفي مساعيها هيئة علمية تجعلها سندها في تحديد ما ينبغي التفكير فيه، غابت هذه الهيئة عن الميدان منذ إيقاف وظيفة المجلس الأعلى للتربية، الذي أنشأته الدولة مع بداية الانفتاح السياسي “ليعوض ما كانت تقوم به لجنة التربية التابعة لجبهة التحرير”. وهذا هو السبب الذي جعل الناس من أهل الرأي وذوي الاختصاص يتساءلون متى يهتدي المسؤولون في الدولة إلى جعل العناية بتوجيه السياسة التعليمية في طليعة الإجراءات التي تشرح إرادة الأمة ومساعيها السياسية، بحيث تكون هذه الإجراءات سبيلا يخرج التربية من ضعفها وأزمة سيرها، ويرتقي بالقطاع ويجنبه ما يعانيه.
وأهم ما ينبغي أن تجعله الدولة في طليعة اهتماماتها الهادفة إلى التحسين هو تشكيل هيئة عليا يُسند إليها النظر في تطوير ظروف التربية ويقودها إلى تحقيق التوعية التي ظل المتجمع يتطلع إليها، وبهذه الهيأة يجد القطاع طريقه للنهوض بواجباته، والهيأة المعينة ليست هي اللجان التي تشكلها الوزارة .
وعندما نتأمل واقع الأوضاع التعليمية نلمس بوضوح جوانب الخلل التي تظهر من خلال تدهور النظام، وتعدد أشكال الاختلال التي نخشى إن بقيت على وضعها تتحول إلى أزمة تربوية تمس النظام وتمس أهدافه، وحينها يتطلب الواقع علاجا سياسيا شاملا، والأمر المستعجل هو الشروع في معالجة ما يعوق النظام عن التطور. وأنماط الخلل التي ينطلق منها العلاج عديدة منها ما ذكرناه ونضيف إليها النقاط التالية:
1-الخلل المتمثل في الإجراءات المرتجلة، في تبني الأفكار والمشاريع، وكذا الإقدام على طرح الجوانب الفكرية الغامضة، والأساليب المعقدة وجعلها أساسا من أسس الإصلاح.
2-التطاول ببعض التصرفات على فكر الأمة، وتوجهاتها في الظهور ببعض الآراء والمواقف الغريبة التي يستغربها من يعيش الحقائق الوطنية.
3-التباين الذي نلمسه في المواقف بين ما تريده وتعبر عنه السلطة السياسية، وما يجري في الواقع العملي فالسلطة تصرح بما يجب الاهتمام به في مجال العناية بتلقين المعرفة العلمية والتوجيه التقني، ولكن القائمين على التعليم لا يسايرون هذا الاتجاه فقد أقدموا منذ سنوات على التخلي عن العناية بالتعليم التقني، بل حولوا مؤسساته إلى ثانويات للتعليم النظري، بدون ان يشرحوا للرأي العام هذا التصرف، وتم ذلك بحجة أن هذا أمر موكول إلى التكوين المهني في حين أن مهمة التكوين المهني تختلف عن مهمة التعليم التقني، وهذا الإجراء جعلنا ننظر إلى التعليم التقني على أنَّه أقلّ شأناً مما كان عليه.
4-من المظاهر التي يبرز فيها الاختلال واضحا، الموقف الذي تعامل به المسألة اللغوية عندنا وهو الموقف الذي جعل البلاد بحاجة ماسة إلى معالجة الجوانب التي يطرحها هذا الموقف، فتعليم اللغات وتعميق الاهتمام بها من الأمور الهامة التي يجب التركيز عليه، ولكن النظرة السياسية التي ينظر بها المسؤولون إلى اللغات، لم تحدد للقائمين على التعليم ما هي السياسة التي يجب أن تتبع، وما هي اللغات التي ينبغي أن يعطى لها الاهتمام ويجعلها تحظى بالأولوية في التقدير. وما هو وزن كل لغة في نظام التعليم؟ وما صلة العناية باللغات بمسألة التطوير الذي تنشده؟.
5- مشكلة تكوين إطارات التعليم
هذه المشكلة هي الخلل البارز في تنظيم عمل المدرسة وهي التي تشكل أساس الأزمة التربوية التي أخذت تتغلغل في الوسط التعليمي، وهي التي جعلت النظام التعليمي يفقد قدرته على صناعة الواقع المعرفي، هذه المشكلة ما تزال حادة لم تجد الدولة حلاً لها، لا سياسيا ولا تربويا فالخطة المتبعة هي الاعتماد على المسابقات الدورية في التوظيف بدون أن ترافقها سياسة فاعلة في مجال الإعداد والتهيئة للعمل، والعلاج المطلوب هو إقرار سياسة وطنية تحدد أسلوب الانتقاء وطريقة الإعداد، وضبط البرنامج الذي يلقن للمقبولين بحيث تخصص فترة لتلقي هذا البرنامج يمتد سنة على الأقل ويعتمد في الإشراف عليها أساتذة متمكنون مهمتهم الأساسية هي ترميم المستوى المعرفي وتقديم ما هو أساس بالسنة إلى مهنة التعليم علميا وتربويا وأخلاقيا.
6- مراجعة مضامين المناهج:
ويتطلب الأمر تخفيف كثافة المعلومات والتدقيق في ضبطها وتحديد أساليب طرحها وتنظيمها وجعلها ملائمة للمستوى العمري ومستجيبة لحاجات المتعلمين، وإزالة الجوانب المعقدة التي تعوق الفهم والهضم.
هذا هو الوضع التعليمي الذي نعيشه، وغرضي من هذا الذي ذكرت هو تنبيه المسؤولين إلى ما يجب عمله لتصحيح الوضع.
كنا نتمنى أن نسمع آراء المسؤولين والمهتمين بالتربية حول هذا الواقع الذي نعيشه، كنا ننتظر منهم أن يبينوا مواقفهم تجاه ما شرحناه، كان المنتظر من المسؤولين في الدولة أن تكون لهم توجيهات واضحة ومحددة لما ينبغي تصحيحه في مجال الإجراءات الهادفة إلى التطوير، ولما يجب اتباعه في مجال تجديد الوجهة السياسية والاتجاهات التربوية لكننا لم نر جانبا من هذه التوجيهات لأنهم تركوا الأمر بيد المسيرين، فهم الذين يفعلون ما يشاءون: يقدرون، أو يلغون ما هو قائم، حتى ولو كان القرار مخالفا للتوجيهات السياسية والقيم الحضارية، ومتعارضا مع ما سار عليه النظام، ودرج عليه المجتمع في حياته الثقافية وترسخ في شعور أبنائه مثلما حدث في الأخير بخصوص الإقدام على حذف البسملة من الكتب المدرسية الجديدة، بدون أن يرجعوا في ذلك إلى أهل القرار، ولا يستغرب بعد هذا أن تحدث أمور أخرى من هذا النوع أو أكثر غرابة، فهم يحاولون منذ سنين أن يقدموا على أمور أخرى يحاولون إدماج التربية الإسلامية بالتربية المدنية أو جعلها، جزءا من السلوك المدني، ويحاولون أيضا تغيير مصطلح التربية الإسلامية بمصطلح الحضارة الإسلامية وفي هذا هدف واضح، وقد نفاجأ بأمور أخرى غايتها تغيير وجهة التوجه المدرسي، مثل الذي حدث منذ سنين بخصوص الدعوة إلى تعليم الدارجة، ومثل الإجراء الذي تم من قبل، والذي تم بمقتضاه تغيير الرموز الخاصة بتدريس الرياضيات وفرنستها باستعمال الرموز اللاتينية، وهناك مسعى متواصل من أجل تغيير لغة تدريس المواد العلمية في مرحلة ما قبل الجامعة، وترشيح الفرنسية لهذه المهمة، ونذكر هنا ما حدث في السنة الماضية حين نشرت الكتب الجديدة، فقد ظهرت أمور في هذه الكتب مخالفة للطرح البيداغوجي، وغير منسجمة مع توجهاتنا ومع ذلك لم يتحرك من تدفعه الغيرة على التربية فيتوجه إلى التعليق عليها وبيان الجانب السلبي في تناولها، فلم تطرح أية جهة من الجهات المعنية الجوانب التي تبرز الخطأ المنهجي في بناء هذه الكتب وفي تنظيم المعلومات، لم نسمع ملاحظة في الموضوع من الوزيرة، ولا من مستشاريها تعليقا على الملاحظات التي وصلتهم بخصوص كتب الجيل الثاني.
لم تبد الوزيرة رأيها في التقييم الذي وصلها بخصوص الطرح البيداغوجي الذي اعتمده المؤلفون في هذه الكتب، والذي بين المعلقون عليه أنه طرح غير سليم من الناحية المنهجية، لم نسمع الآراء المعلقة على ما ورد في هذه الكتب ما عدا التعليق الذي قرأناه في بعض المقالات وكذا التعليق الذي ورد في تقرير جمعية العلماء بخصوص التناول المنهجي الذي ألفت به الكتب، وقد شمل هذا التقرير بالإضافة إلى الأخطاء البيداغوجية عددا من الأخطاء اللغوية والنحوية التي تجاوز عددها مائة خطأ في كتاب واحد هو كتاب الرياضيات للسنة الثانية، وهناك أخطاء أخرى في بقية الكتب، ويجب أن نشير هنا إلى الخطأ الفادح الذي علقت عليه الجمعية والذي ورد في كتاب التربية المدنية الخاص بتلاميذ السنة الأولى من التعليم المتوسط، وهذا الخطأ هو المتعلق بالشرح المعتمد في تحليل مفوم الديمقراطية الذي اعتمده المؤلفون وانطلقوا في تحليله من الاستفتاء الذي نظمته إدارة الاستعمار عام 1962م ضمن إجراء تطبيق اتفاقيات توقيف القتال ومضمون الاستفتاء هو الإجابة عن السؤال المطروح: هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا؟ والإجابة هي (نعم) أو (لا) هذا خطأ لا يقبل من أي أحد، كنا ننتظر أن يحذف أو يصحح بعدما نبهنا عليه.
إنَّ هذا الدرس لا صلة له بحياتنا الحاضرة ولا يشرح مفهوم الديمقراطية ثم إن الغاية من طرحه ليس شرح الديمقراطية، فلو كانت هذه هي الغاية لاعتمدوا على الاستفتاء الذي نظم في ميثاق السلم والمصالحة.
هذا هو الخطأ الذي نبهنا عليه، وأعلمنا الجهات التي يهمها ويمكنها الإسهام في معالجته، قد أعلمنا وزارة المجاهدين وطلبنا منها التحرك لمعالجة الأمر والتدخل من أجل حذفه لأن بقاءه بين أيدي أبنائنا يعد طعنا في نظامنا واستخفافا بتاريخنا وبقيم ثورتنا، لقد قدمنا للوزيرة تحليلا مفصلا حول هذا الخطأ، ومع ذلك فالدرس باق لم يحذف ولم يصحح، كنا نتوقع أن الوزارة بعدما وصلها التقرير أنها ستكتب إلى الجمعية وتعلن رأيها سلبا أو إيجابا، لكنها لم تفعل.
كان المنتظر من المسؤولين وهم يتحدثون عن الموسم الدراسي الجديد أن يناقشوا ما تم في السنة الماضية، لم نسمع رأي الحاضرين في اللقاء الذي ضم مديري التربية وإطارات الوزارة عن نتائج كتب الجيل الثاني.
فلم يذكروا رأيهم في الملاحظات التي قدمت إلى الوزارة، ولم يعلقوا على ما ورد في هذه الكتب وعلى الانتقادات التي وردت بشأنها، إن الغريب في الأمر هو أن التجديد الذي تريده الوزارة وتتحدث عنه هو أن تجعل المدرسة تتخلى عن التوجهات الوطنية وتقترب شيئا فشيئا من ملامح المدرسة الفرنسية، وإلا فما معنى الطرح الذي تسير في ركابه وتقدم كل سنة على أمر من الأمور التي لا ترجع فيها إلى أية جهة، فهي تسعى إلى تغيير وجهة التعليم باسم العصرنة والتفتح والسعي نحو النوعية، والأفكار التي تطرحها من حين لآخر غايتها توجيه النّظام نحو التغريب والوقائع تشهد على ذلك، وحذف البسملة من الكتب هذه السنة يؤكد هذا، وما نرجوه من المسؤولين هو توقيف هذه الإجراءات الارتجالية والمواقف الغريبة التي ليس لها هدف إلا تشغيل الناس وإلهاءهم بالجدل والمناقشات، لتتفرغ هي إلى التفكير في أمور أخرى، وما نريده هو أن يمارس المسؤولون مسؤوليتهم بتوقيف مثل هذا العبث بتشكيل هيئة عليا تسند إليها النظر في قضايا التربية وفي توجيه الجهود الهادفة إلى التطوير، لأن السير على هذا التفكير سيؤدي إلى أمور أكثر غرابة.