تفاقم ظاهرة الانتحار في الجزائر تفسيره ودلالاته بقلم الأستاذ/ محمد العلمي السائحي
إن ظاهرة الانتحار ظاهرة قديمة ومعروفة وليست بالظاهرة الجديدة، فقد اعتادت الإنسانية على وضع أفراد حدا لحياتهم لسبب أو لآخر، ولكنها لم تكن من الشيوع بمثل ما هي عليه اليوم، كما أنها كانت محصورة في فئة الرجال الراشدين، ولم تكن معروفة في فئة النساء والأطفال والشيوخ، ثم إن هذه الظاهرة كانت في غالبها الأعم، يتم اللجوء إليها كوسيلة للنجاة من عار الإفلاس المالي في المجتمعات الرأس مالية، أو الهزيمة العسكرية كما كان الشأن عليه في الحرب العالمية الثانية بالنسبة لليابانيين، ثم أنها كانت تتم بسرية وتكتُّم. ثم إن وسائل تنفيذها كانت محصورة في صور ثلاث، الشنق والطعن والسم.
أما اليوم فإن ظاهرة الانتحار في الجزائر باتت تحدث بفعل بواعث مختلفة، ولم يعد الخوف من عار الإفلاس أو الهزيمة العسكرية، هما الدافع الوحيد إليها، بل دخلت ساحتها بواعث أخرى جديدة كل الجدة، مثل الفشل في الحب، أو المشاكل العائلية، أو الإخفاق الدراسي والرسوب في الامتحان، أو عدم الحصول على وظيفة، أو الحرمان من السكن.
وتميزت هذه الظاهرة في الوقت الحالي بشموليتها لمختلف فئات المجتمع، حيث لم تعد مقصورة على الرجال الراشدين، بل امتدت لتطال الشيوخ والنساء والأطفال، أي لا أحد بمنجاة منها اليوم.
ويمكن أن ننبه إلى أن هذه الظاهرة قد تحولت إلى وسيلة للاحتجاج على الفساد الإداري والتعسف السياسي، والسعي لإحداث التغيير السياسي المنشود، كما كان الشأن مع انتحار البوعزيزي في تونس، فمنذ تلك اللحظة استحال الانتحار العلني بالاحتراق، وسيلة للاحتجاج والضغط على السلطات الإدارية والسياسية، للتغيير من سلوكها اتجاه المجتمع،
وباتت أداة يلجأ إليها لحمل الإدارة والسلطة السياسية على تلبية مطالب الأفراد والفئات المتضررة.
فالظاهرة إذن لم تعد وسيلة يقتصر تعبيرها عن رفض الفرد للحياة، لهذا السبب أو ذاك، بل باتت تعبر عن تطوع الفرد بالتضحية بحياته رجاء أن يترتب عن ذلك تغيير إيجابي لصالح الجماعة.
ويلاحظ كذلك على هذه الظاهرة أن وسائل تنفيذها قد تطورت وتنوعت، فهي لم تعد مقصورة على الوسائل الثلاث، الشنق والطعن والسم، بل أضيفت إليها وسائل أخرى، من أهمها الاحتراق، والتردي من علٍ، وقطع الشرايين، كما تجدر الإشارة إلى أنها اتسمت بالطابع العلني بينما كانت في السابق تتم خفية ومن وراء ستار من السرية والتكتم.
والظاهر من تحول هذه الظاهرة من التستر والخفاء من المقدمين عليها، إلى العلنية والسفور، أنه يعبر بصورة ما، عن حاجة دفينة في نفسية المنتحر تتعلق برغبته في تبكيت ضمير السلطات الإدارية والسياسية، والمجتمع بشكل عام لاعتباره لهم مسؤولين مباشرين عن دفعه للانتحار.
ولو نظرنا الآن في دلالات تفاقم هذه الظاهرة في الجزائر، فإننا يمكن أن نصل الآتي:
- إن انتشار هذه الظاهرة وامتداداتها لتشمل جميع الفئات الاجتماعية تدل دلالة قطعية على أننا إزاء مجتمع مأزوم، وأن حجم المشاكل الاجتماعية قد زاد عن طاقة تحمل الفرد.
- انتشار هذه الظاهرة في شريحة الأطفال يكشف عن سوء الأوضاع داخل الأسرة والمدرسة، فالمطلوب هو تصحيح الأوضاع داخل مؤسسة الأسرة والمدرسة بما يلغي أو يخفف الضغط الذي يعاني منه الطفل فيهما، ويسهم في إبعاد فكرة الانتحار من ذهنه.
- إن نزعة هذه الظاهرة إلى التنفيذ العلني إن شاعت وتواصلت، فإنها قد تدفع المجتمع إلى اتخاذ موقف سلبي من السلطة التي أدى تماطلها أو عجزها عن حل المشاكل العالقة والقضايا المطروحة عليها إلى دفع الناس إلى الانتحار، وهذا معناه أن هذه السلطات مدعوة إلى تغيير أساليبها في التعامل مع الناس، وأن تحرص كل الحرص على أن تكون أكثر إيجابية وأن تبدي اهتماما جديا بقضايا الناس، وإن لم تفعل فإن الناس سيغضبون منها، وينقلبون عليها باعتبارها المتسببة في موت أحبائهم.
- إنه لن يجدينا نفعا في مقاومة انتشار هذه الظاهرة الاعتماد على الوعظ الديني وحده والتأكيد على أن الانتحار حرام، فالمقدم عليه
قد تحيط به ظروف جد حرجة، وأن تكون له دوافع قوية تحدوه إليه، بل يتطلب ذلك الكشف عن البواعث والأسباب الدافعة، والتركيز على فك ألغازها، وحل طلاسمها، والعمل بجد على حل القضايا والمشاكل المتعلقة بها والمترتبة عليها.
وخلاصة القول: أن ظاهرة الانتحار في الجزائر قد انتشرت وتحولت إلى ظاهرة لا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها، وقد باتت تهدد أمنا الاجتماعي خاصة بعد انتشارها في أو ساط النساء والأطفال، ولأنها تشير إلى تفاقم المشاكل الأسرية والاجتماعية وبلوغها مستوى من الضغط يفوق احتمال الفرد، وهي من هنا باتت تحتاج إلى الدراسة الجاد، والسعي الحثيث للعمل على الحد منها والنزول بها إلى المستوى الذي لا يشكل خطرا على استقرار وأمن المجتمع …