شياطين الإنس/ محمد الصالح الصديق
عرف بالجد والنشاط في المدارسة ثم في الجامعة، وكان لا يرى في البيت إلا ومعه كتاب أو كراس، يراجع أو يكتب، وكان والده صاحب ثروة كبيرة من ضياع ودور وعقار، لا يضن نفسه شيء يطلبه، وكان كلما نجح في الانتقال إلى سنة دراسية جديدة، كافأه برحلة إلى أوروبا أو الشرق العربي، وكان معلموه على اختلاف المواد التي يدرسونها له يجمعون على أنه حسن السلوك، متفوق في قسمهن وكنت أرى والده عرضا من حين لآخر، فيلفت نظري بابتسامته التي ترف على ثغره، والنظارة الرقيقة التي تشع على ملامح وجهه، والمفاكهة العذبة التي تعد من مميزاته والتفاؤل بالمستقبل السعيد إلى حد الإفراط أحيانا، ثم غاب عني شهرا فلم أعد أسمع عنه شيئا.
وذات يوم التقيته، فوجدته شاحب اللون، مقطب الجبين، موزع الفكر، غائر العينين، مهدود الجسم، مشوش الهندام، فعجبت أن يتحول الرجل إلى هذا المخلوق في فترة لا تعدوا أشهرا، فسألته عن حاله، وكيف تجهمت له الأيام؟ وقلت له: حدثني واشرح لي وضعك المؤلم الذي تحمل أعباءه وأثقاله علني أجد لعقدتك حلا، ولعلتك شفاء، وقديما قيل:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك، أو يتوجع
فتنفس الصعداء من قلب محترق، ثم أخذ يقول في صوت متهالك تتخلله زفرات تنبعث من أعماقه: لقد كان ابني –كما تعرفه- آية في الذكاء، ومثالا للجد والنشاط، وقدوة لزملائه في السلوك،مما جعله في قلوب معلميه موضع الاحترام، ومثار الإعجاب والتقدير، وكان طوال السنوات الدراسية الماضية، يستنزف من عصارة قلبه، ومن سواد عينيه، ومن لباب بنيته وصحته، لأن المهم عنده النجاح، وكان كل ما ملكته من حطام الدنيا لا يساوي عندي شيئا بجانب ما كنت أنتظره من وراء هذا الولد ولكن لعن الله قرناء السوء..؛ لقد التف حوله خلان لا يمتون إليه بِصلة، فزينوا له سوء العمل، وفتحوا له باب المغامرة والمقامرة، فأعرض عن الدراسة ثم عاد يمارس الرذائل، ومنذ أيام اختفى، ولم أعد أعلم عنه شيئا، حتى جاءتني رسالة من باريس يخبرني بها أنه لن يعود إلى الوطن، وأشد ما يأسف عليه هي أيام شبابه التي قضاها بين جدران المدرسة والجامعة طالبا للعلم ومتحليا بالفضيلة.