الكتابة وضوح وبيان

محمد الصالح الصديق
جاءتني كاتبة بكتاب أنجزته وأعدته للطبع، وقالت أنها تريد أن تعرف رأيي فيه قبل أن يصدر ويراه الناس، فطلبت منها أن تقرأ لي في كل فصل فقرات، لأن ظروفي وظروفها لا تسمح بقراءة الكتاب كله، وكان مما قرأته في أحد الفصول هذه الفقرة:
“نحت له جسما بلوريا من الحداد، وشققت له لحدا فضيا من النهاية السرودية، وكتبت على صحف الشفاه المبللة النكراء عبارات بلهاء، هي أفصح من الشفق الباكي والنهر الخاشع، وإذا عدت من الماضي إلى الخمرة المعتقة سكبت دموعي على الهجرة المنسية، والربوة المغردة، والأنين المثير”.
فاستوقفت الكاتبة وسألتها: هل فهمت هذا الكلام الذي يشبه العربية في كلماته وليس بالكلام العربي في مدلوله؟ فعدلت جلستها وأطبقت كتابها ونظرت إلي في عجب وقالت: أليس هذا الكلام عربيا في مدلوله يا أستاذ؟
فقلت لها: إذا استطعت أن تشرحي لي قولك مثلا: “نحت له جسما بلوريا من الحداد” فكلامك عربي.
فحاولت المسكينة أن تشرح الجملة بكلمات ولكنها لم تزدها إلا غموضا، وبعدا عن الفكرة التي تريد تحديدها، وأدركت ذلك في نفسها، واعتراها خجل وارتباك، مما جعلها تطرق رأسها في صمت.
فرأيت أن أشجعها على محاولتها من جهة لكيلا أتسبب في انطفاء شعلتها، ولكني في نفس الوقت أقدم لها توجيها قد يضيء لها الطريق، ويضع لها المعالم الحقة فيما ستعالج في مستقبلها من أعمال فكرية وقلمية.
فبعد أن ذكرت لها أن لها مستقبلا واعدا يدل عليه ما تملك من ثروة لفظية، وخيال واسع خصب، ورغبة شديدة في الإبداع، وحب جارف للكتابة، قلت لها:
لا يبرحن من ذهنك أن أول ما يجب اعتباره وقراءة ألف حساب له، هو أن الغاية من كتاباتك إيصال فكرتك إلى قارئك، ولكي تصل فكرتك إلى قارئك يجب أن تكون واضحة لديك كل الوضوح، فإذا لم تتضح لك فكيف تنتظرين أن تتضح لدى قارئك؟
وأيضا فالخطيب قد يسيطر على جمهور مستمعيه بصوته القوي، ومظهره الجذاب، وعبارته الأنيقة، ولكن الكاتب إنما يهيمن بكتابته على قارئه الغائب الذي لا يراه، بوضوح فكرته، وسمو بيانه، ولطيف إشاراته.
ثم لا تنسي أن أصعب الأشياء، وأهمها أن تغرسي في الفكر فكرتك، أو تقودي الفكر إلى حيث تريدين، ولكي تغرسي أو تقودين فالواجب أن تكوني قادرة على ذلك، بفكرك، ولغتك، ومعالجتك.
وأخيرا قلت لها: إن كل كاتب كبير غرس أفكار، وقاد العقول، سواء أكان سياسيا أو مصلحا، أم مفكرا، إنما بدأ مسيرته متعثرا ثم انطلق على الجادة قويا مستقيما، نزاعا إلى الإجادة، والابتكار، والإبداع، حتى علا شأنه، وعظم خطره.
إن الحلم، والحب، والرغبة، والممارسة الدائمة هي أعظم رأس مال من يريد أن يصبح كاتبا حقا.
فلا ينبغي لأحد أن يهزأ ممن يحلم بأن يكون عالما أو كاتبا، فالذين حولوا مجرى التاريخ بدأوا حياتهم بالحلم والحب والرغبة، فكان لهم ومنهم ما كان.
فعلى قدر الحلم والحب والرغبة يكون الإنسان.
فهل أنسى يوم سألني إمام في إحدى القرى المجاورة لقريتنا وأنا في حدود السابعة من عمري: كيف تريد أن تكون في مستقبلك،
فقلت له: أريد أن أكون مؤلفا للكتب.
لأن والدي يذكر مؤلفي الكتب في إكبار وتعظيم.
فضحك الرجل وقال: إنها أمنية بعيدة يصعب تحقيقها.
ولما ذكرت ذلك لوالدي قال لي: لا شيء يبعد عن الإنسان إذا قويت إرادته، وصحت عزيمته، واستعان بالله.
ومنذ ذلك الحين أعمل بإشارة الوالد، وأستعين بالله، فكان ما أراده، وما تمنيته فله المنة والحمد .
ولقد سئل أحد الفلاسفة –وأظنه نتشة- عن حياته فأجاب: أنا إرادة، وعزيمة، وعمل.