إحياء السيرة الإبراهيمية/ عبد العزيز كحيل
نحن المسلمين أمة ممتدّة في الزمان والمكان، أخرجها الله تعالى إخراجا، وصنعها على عينه، وصهرها موكب من الصالحين يتقدّمهم أنبياء كرام على درجة عالية من الإيمان والأخلاق هم قدوة البشرية في كل خير:{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[سورة الأنعام:90].
والاحتفال بعيد الأضحى يعني إحياء مآثر أعلام النبوة والاستقامة والقدوة الرفيعة: إبراهيم وإسماعيل وهاجر، وقد اتصف هذا الموكب الكريم بصفات مميّزة :
- التسليم لأمر الله والمسارعة إلى الامتثال له: يُرزق الخليل عليه السلام بولد بعد أن تقدمت به السنّ ويئس من الإنجاب بسبب عقم امرأته فيؤمر بالذهاب به وبأمّه من العراق إلى صحراء الجزيرة العربية ليتركهما في واد لا حياة فيه ويقفل راجعا، فينفّذ أمر الله دون تردّد، وهل هذا سهل على أي أب؟ وتنظر زوجه إليه وهو يبتعد عنها وعن رضيعها فيَهالُها الوضع لكنّها تسأله: آللهُ أمرك بهذا؟ فيشير بالإيجاب، فتقول في يقين المؤمن وإيمان الموقن: إذًا لا يضيّعنا، وهل يسهل على أي أمّ تقبّلُ مثل هذا الخيار العسير؟ ويكبر الطفل ويجتمع بأبيه فإذا بالأخير يخبره أنه أُمر بذبحه، وهل من اليسير على الوالد أن يمسك بالسكين ليقطع رقبة ابنه؟ وهل من اليسير أن يمدّ الابن رقبته راضيا مرضيا؟ لكنهما فعلا ذلك…إنه مقتضى الإيمان بالله وحكمته، التسليم له بكلّ ثقة، ومثلُه الإذعان لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبال وحفاوة بعيدا عن أي تلكؤ…هكذا هو الإيمان أو فهو لا إيمان.
وفي كتاب الله تعالى ثلاث آيات محكمات تبيّن الأمر وتحسمه:
– {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[سورة النور: 51].
– {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }[سورة الأحزاب: 36].
– {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[سورة النساء: 65].
هذا وقد ورد في كتاب الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[سورة البقرة: 131].
هذه هي العقيدة الصحيحة الراسخة: الثقة بالله ورسله والتسليم لأمره والإذعان لحُكمه بالعقل والقلب والجوارح، فأين إيمان من يطالب بتسوية نصيب المرأة والرجل في الميراث وبإباحة زواج المسلمة من غير المسلم؟ وقد رحبت النخبة التغريبية بالأمر ودعت إلى فتح نقاش حوله…ومع ذلك يزعمون أنهم مسلمون ! يذعنون لاختيار الزعيم ويرفضون أمر الله ويطالبون بمناقشته لتبيّن وجه صلاحه لهذا الزمان !!
- كانوا أصحاب بناء وتحضّر: لم يكن إبراهيم متمحّضا للهدم، نعم، هدم الأصنام لكنه بنى الكعبة، أعظم رمز ديني على وجه الأرض، فهو القدوة في القضاء على الشرك والفساد والشرّ وإنجاز الأعمال العظيمة من جهة أخرى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}[سورة البقرة: 127] وقد استجاب الله دعاءه بإعمار تلك الصحراء، ومنذ ذلك الزمان والقلوب تهفو إلى البقاع المقدسة والخيرات تأتيها من كل مكان، أي أصبحت حاضرة بلغت الرقي:{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[سورة إبراهيم:37].
هكذا هم آباؤنا: ورّثونا الإيمان والعمل والانجاز أي الربانية والإنسانية.
- كان شعارهم ” الله أكبر“: لذلك نحيي سنّتهم وهدي نبيّنا عليه الصلاة والسلام بالإكثار من التكبير طيلة أيام العيد، لكنها ليست كلمة تردّدها الألسن فحسب إنما هي حقيقة ضخمة إذا استقرت في قلوب المؤمنين وعقولهم استصغروا كل أحد وكل شيء إلا الله سبحانه وتعالى، فالله أكبر من كل ما ومن يخشاه الناس أو يتزلفون إليه، هو أكبر من الشيطان والكفر والنفاق والاستبداد والعولمة والظالمين والحاقدين.