وقفة مع كتاب: «حـكمـة الـفن الإسلامـي» للدكتورة زهراء رهنورد/ د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــة
إن المتأمل في عوالم الفن الإسلامي وجمالياته، ليُعجب أيما إعجاب بتلك العوالم الساحرة، والتي تتلاحم فيها جماليات الشكل، مع عُمق المعنى المُعبَّر عنه، إذ يقف المتأمل مشدوهاً أمام تلك«الأنوار الضبابية المبهمة المنبعثة من نسيج النوافذ الآجرية، ويغرق في أنوار آلاف السنين السالفة، والحالية، من الرسوم الملتوية والرقم الخطية المتصاعدة، وتوحد بين الزخارف والرقوش والخطوط الخارجية للقبب، والجدران اللازوردية في فضائها الداخلي، حيث ينمحي الاختلاف والتضاد، وتتعانق الأرض والسماء ويقترن الداخل بالخارج، والظاهر بالباطن، ويجتمع الأول والآخر، ويتناغم التجريد مع التجربة، والرمز مع الطبيعة، والعقل مع العرفان، والحس مع الشهود، وما ذلك كله إلا من عجائب الفن الإسلامي.
إن تلقي وإدراك جماليات الفن الإسلامي، والتعمق في كل ذلك الجمال بغزارته، وتشعبه المحيّر لا يتيسر إلا من خلال حكمة الحكماء، وإن مركب حكمة الفنّ الإسلامي عبارة عن مزيج بديع للعناصر المكونة للحكمة.
والحديث عن رحلة الفن الإسلامي، هو حديث عن رحلة مطولة، زاخرة بالتقلبات والتحولات، تلك التقلبات التي أسهمت إسهاماً كبيراً في إثراء التجربة، وتنويعها، فهبوطاً «من تلك الدوحة العليا،هبوطاً من سماء إلى سماء،فالإنسان خالق الفنّ الإسلامي أبدعه انطلاقاً من إيمانه الديني،ذلك الإيمان الذي شق في التاريخ طريقاً ولا أروع ولما تنجلي نهايته بعد لنا، والإيمان التوحيدي-الإسلامي الإنساني- الذي بدأ رحلته من شبه جزيرة الحجاز التقى عبر فتوحاته الأولى بأعظم حضارات ذلك الزمان حضارة الفرس وحضارة الرومان،فتعرّف عبر التواصل تأثيراً وتأثراً وإبداعاً مع هاتين الحضارتين على حضارات ما بين النهرين القديمة وحضارة مصر والهند والصين واليونان وأهدى إليها قيمه ومعتقداته هيكلاً ومضموناً. وبذلك أضحى الفن الإسلامي الوريث الوحيد لثمرة التجارب والمنجزات الثقافية والفنيّة التي ابتكرها وأوجدها أناس وأقوام غابرة، وما ذلك إلا لأنه تعامل مع الجديد من الثقافات برحابة وسعة صدر ولم يكن ليسعى يوماً إلى طمس معالمها أو تخطئتها،بل على العكس،فمن خلال ارتكازه على جوهرته الإيمانية(التوحيد) اكتسب وجوهاً وعناصر جديدة من تلك الثقافات وصبغها بصبغة التوحيد، وقد استطاع الفن الإسلامي عبر اعتماده على الرمزية الخاصة القابعة في باطن اعتقادات هذا الدين المبين أن يقدم أشكالاً وأساليب جديدة إلى الأسلوب العرفاني الإلهي، وهذا ما أدى بدوره مع نهاية القرن الثاني الهجري، وبعد مضي مدة طويلة على التفاعل مع ثقافات ذاك الزمان والتأثر بها إلى غاية تجلّي الفنّ والثقافة الإسلامية بأصفى شكل وأبدع صورة في روضة الحياة وساحة الوجود. وهكذا بدأ حياته برقة وجمال وعظمة وأمضاها على مدى ألف عام إلى أن اصطدم مع الغزو الثقافي الغربي الذي اجتاح بقاع العالم بما فيها العالم الإسلامي حيث انتابته حالة من الجمود والتواني مثيرة للدهشة.
وعلى الرغم من أن الثقافة والفنّ الغربيين لم يستطيعا التغلّب على الفنّ والثقافة الإسلاميين، إلا أنهما بدءا حياتهما إلى جانبهما عبر صور وأشكال تعبّر عن المعرفة الجمالية للثقافة المذكورة، وهنا يمكن القول بأن فصلاً جديداً قد بدأ في الشرق الإسلامي، فعلى امتداد الوجود الاستعماري في بلادنا الإسلامية واجه الفن بالمعنى الأعم أزمة عظيمة يمكن أن نسميها أزمة هوية، ومع تطور هذه الأزمة قطع الفن عرى اتصاله بماضيه وتاريخه وذلك دون النظر إلى الأسس النظرية والمعرفية الجمالية المتكاملة ودون أدنى اطلاع على التشعبات والمعطيات المعرفية المعاصرة، ومع هذا الانحلال انجذم حبل اتصاله مع الناس وخصوصاً مع نخبة المثقفين وبالتالي انحجبت قابلية الإلهام عن جماليات الثقافة والأدبيات الوطنية والدينية ليحل محلها التأثر بالثقافة والفن العالميين».
إن أغلب الدراسات التي تناولت فننا الإسلامي وألفيناها على الساحة ركزت في مجملها على قضايا الجمع، والتوثيق، والتأريخ، والمتابعة، وقلما وجدنا دراسات جادة معمقة تقدم لنا إحاطة شاملة عن جماليات ، وفلسفة، ومضامين ، وحكمة فننا الإسلامي،ففي نظرنا أن هذا المجال لم يلق العناية الكافية، ولم ينل حظاً وافراً من الدرس والتحليل.