إحساس بالإحباط، أم ثقافة الهزيمة؟بقلم/ عبد الحميد عبدوس

قرأت باندهاش ما جاء في عمود (نقطة نظام) الصادر في جريدة الخبر يوم الخميس 9 ذي الحجة 1438هـ، الموافق31 أغسطس 2017م تحت عنوان ” الإحساس بالإحباط” للزميل الكاتب الصحفي المعروف سعد بوعقبة الذي يعتبر من أكثر صحفيي جيل الاستقلال في الجزائر ممن يكتبون باللغة العربية، موهبة وتأثيرا وانتشارا وسط القراء، وأقول ذلك لأنني من بين الذين جايلوا (من الجيل) الأستاذ سعد بوعقبة في الحقل الإعلامي، وزاملوه في العمل بجريدة الشعب لقرابة عقد من الزمن. لقد أدهشني حقا أن يوافق الأستاذ سعد بوعقبة الذي أعرفه فخورا بأصالته وكفاح شعبه، غيورا على وطنه واستقلاله، على رأي قارئ يكاد يكون تمجيدا للاستعمار الفرنسي، وإشادة صريحة بسياسته التعليمية في الجزائر.
وللقراء الذين فاتهم الاطلاع على عمود (نقطة نظام ) المنشور في جريدة الخبر، أقدم فيما يلي نص مراسل العمود، ثم نص تعقيب صاحب العمود عليه، ثم تعليقي على النصين :
” الاستعمار الفرنسي لم يقم باستعمار الشعب وضرب قيمه ومبادئه وأعرافه الإنسانية، بل ترك المجال مفتوحا لمن يريد التعلّم والارتقاء بنفسه إلى عالم الأفكار والمبادئ والقيم، ورأينا أمثال ابن باديس والبشير الإبراهيمي وعبان رمضان وفرحات عباس ومصالي الحاج وآيت أحمد وبوضياف، ومجموعة كبيرة من النخبة الوطنية التي تكونت وارتقت بنفسها وبالوطن في ظل الاستعمار. أما النظام الحالي فقد فعل فعلته بتحطيم وضرب منظومة القيم الوطنية والمبادئ، كحب العمل والتعليم، ومعاداة الفساد والرشوة، فأفسد منظومة تربوية بأكملها، وأشاع استغلال الدين للسيطرة على عقول أفراد المجتمع، ونمّى الفكر المتطرف والاسترزاق السياسي، ورعى طبقة رجال الأعمال والرأسمالية بأموال الاشتراكية!
بالله عليكم، أعطونا أسماء شخصيات وطنية نخبوية راقية ومتعلمة وذكية ونظيفة ذات شخصية وكاريزما من خريجي الجامعة الجزائرية، أو خرجت من صلب منظومة الحكم التي تسيطر على الجزائر منذ 1962!”
سمير. ج
+++++
تعقيب سعد بوعقبة:
” رغم قساوة ما كتبت يا سمير، إلا أن هذه هي الحقيقة! وعندما يصبح ذلك إحساسا عاما، فإن التفكير في مسألة خلاص بلادنا مما هي فيه يتجاوز فكرة الإصلاحات الترقيعية لبنية النظام الذي أضاع مكاسب الاستقلال في ظرف 50 سنة، هذه المكاسب التي ناضلت من أجلها أجيال كاملة طوال 132 سنة كاملة وسقط من أجلها ملايين الشهداء..
الإحساس بما تحس به يا سمير ليس عيبا، بل العيب هو أن نتغابى كالنعام عن الواقع الذي نعيشه بمرارة، ونحن نخسر عشرات السنين من حياة الأمة في تنمية ما ذكرت بكل أسف! لماذا لا نكون مثل إسبانيا أو البرتغال أو كوريا الجنوبية، وقد كنا أحسن منها قبل 50 سنة؟! إنه الفشل والضياع الذي يجد مبرره في هذا السلوك البائس للنظام، وبسكوت من الشعب، يصل إلى حد التواطؤ.”
+++++
حقا قد تكون نخبة من الشخصيات الممتازة التي ذكرها ( سمير. ج ) في نصه المشار إليه أعلاه، من أمثال ابن باديس والبشير الإبراهيمي وعبان رمضان وفرحات عباس ومصالي الحاج وآيت أحمد وبوضياف.. وغيرهم، قد استطاعت أن تقهر الظروف في ظل الاستعمار، وأن تمتلك مستوى من الـتحصيل العلمي، وعمق البصيرة، ونضج الوعي أهلها لتغيير مجرى التاريخ، ولكن الأمر لا يتعلق بعشرات أو بضعة مئات من أفراد النخبة، بقدر ما يتعلق بملايين من أفراد الشعب الجزائري الذين حرموا عن قصد من نعمة التعليم تحت نير الاحتلال الفرنسي للجزائر، وحتى لا تكون الشخصيات الممتازة أشبه بالشجرة التي تغطي الغابة. نورد الحقائق التاريخية التالية:
ـ يشهد التاريخ أن الاستعمار الفرنسي، أو على الأقل جزء من نخبته الحاكمة كانوا يعتبرون “الأهالي” الجزائريين أدنى مرتبة من الكلاب، فإذا كان بالإمكان تعليم الكلاب مهارات الصيد أو الحراسة أو المطاردة أو تمزيق أجساد المسجونين لإجبارهم على الإدلاء بالاعترافات أو الوشاية بالمقاومين والمجاهدين المطلوبين من طرف سلطات الاحتلال، فقد كانوا يعتبرون الجزائريين غير قابلين للتعلم حيث أعلن المجلس الأعلى للجزائر في سنة 1894م: ” أن العرب هم جنس مُنْحَطٌ، وغير قابل للتعلم” « l’Arabe est une race inférieure et inéducable » ” وعبر ذات المجلس عن الرغبة في إلغاء التعليم الابتدائي بالنسبة للأهالي ( الأنديجان)، وهو المطلب نفسه الذي رفعه في سنة 1908م مؤتمر رؤساء بلديات الجزائر، أي بعد 26 سنة من صدور قوانين جول فيري في 1881م-1882م التي جعلت التعليم الابتدائي إجبارياً، وعلمانياً ومجانياً في بالمدارس العامة، وكذلك المرسوم الصادر في سنة 1883م الذي طالب كل البلديات بإنشاء مدارس لاستقبال الجزائريين والأوروبيين على حد السواء. ولكن المدارس الخاصة بالجزائريين ظلت حبرا على ورق.
ـ تذكر المؤرخة الفرنسية إيفون تيران شهادة مدير شؤون الجزائر في سنة 1850م دوماس (Dumas) في وصف الحالة التي كان عليها التعليم في الجزائر قبل دخول الاستعمار الفرنسي، يقول فيها: “إن التعليم الابتدائي كان أكثر انتشارا في الجزائر مما نعتقد عموما، وقد أظهرت علاقتنا مع أهالي المقاطعات الثلاث أن متوسط عدد الأشخاص من جنس الذكور الذين يعرفون القراءة والكتابة يساوي على الأقل المتوسط الذي أعطته الإحصائيات عن أريافنا…فهناك حوالي 40% من دون شك، لكن إن لم يكن جميع الأطفال قد تعلموا القراءة والكتابة، فإنهم قد ذهبوا جميعا إلى المدرسة، وكانوا يستطيعون استظهار الأدعية وبعض آيات القرآن، لقد كان لجميع القبائل والأحياء الحضرية معلم مدرسة قبل الاحتلال الفرنسي: “وعند استرجاع الاستقلال عام 1962م، أي بعد 132 سنة من “المهمة الحضارية” التي قامت بها فرنسا في الجزائر، كانت نسبة الأمية عند الجزائريين تفوق 85 بالمائة، وكان أربعة أخماس الأطفال الذين يصل سنهم أو يتجاوز 6 سنوات خارج أسوار المدرسة.
ـ لم يكتف المحتل الفرنسي بحرمان الجزائريين من التعليم، ولكنه سعى بكل جبروته للتضييق على التعليم الذي كان الجزائريون يسعون لمنحه لأولادهم، ففي 24/12/م1904 أصدر الحاكم الفرنسي العام قرارا ينص على عدم السماح لأي معلم جزائري أن يفتح مدرسة لتعليم العربية دون الحصول على رخصة من عامل العمالة أو الضباط العسكريين في المناطق العسكرية .
ولمواجهة النهضة التعليمية التي بعثتها جمعية العلماء في المجتمع الجزائري، أصدرت وزارة الداخلية في 8 مارس 1938م مرسوما حمل اسم وزير الداخلية ورئيس حكومة فرنسا كاميل شوطان نص على: “إغلاق المدارس العربية الحرة التي لا تملك رخصة العمل، ومنع كل معلم تابع للجمعية من مزاولة التعليم في المدارس المرخصة إلا بعد أن يتحصل على رخصة تعليم تقدمها له السلطات المعنية”.
وبتاريخ 05/03/ 1954م ، وجه مفتشو التعليم الابتدائي الفرنسي في الجزائر نداء للحكومة الفرنسية طالبوا من خلاله بإلغاء إجبارية تعليم العربية في المرحلة الابتدائية باعتبارها لغة أجنبية في الجزائر.
وأمام هذه الحقائق المريرة، فإن الخطير حقا هو أن يتحول ” الإحساس بالإحباط” إلى” ثقافة هزيمة ” تزرع في نفوس أجيالنا الصاعدة.