وفوق كل ذي علم عليم فريضة التكامل من سنن الخالق الحكيم/ محمد مكركب
من سنن الله في مخلوقاته سنة التكامل، حيث لا يستغني شيء عن شيء مما خلق الله تعالى، بما في ذلك بنو آدم إلا أن يتعاونوا، بأن يكمل بعضهم بعضا، ومن أمثال العامة:{مول التاج ويحتاج} غير أن بعض الغافلين أو المغرورين اتصفوا بمثل سلبي عَامِّيٍّ آخر، وهو من لغة المستبدين{من عندي ترجع} أي ما فيه أعلم مني ولا أشرف مني ولا أولى بهذا المنصب مني ولا رأي أصوب من رأيي!! إلى غير ذلك من الإعجاب بالنفس والغرور بالهوى، وفي القرآن الكريم ورد الخبر عن غرور فرعون وطغيانه:﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [سورة غافر:29] والغريب العجيب أن هذا الغرور الذي أصاب كثيرا من الأفراد والحكام السياسيين، قد أصاب حتى بعض العلماء الدعاة، تجد أحدهم يجرح ويبدع ويكفر ويقاضي العلماء والمفكرين والدعاة وكأنه وحده الذي جمع علم الدين والدنيا، بل وكأنه وصي على الدين، ولسان حاله ومقاله يقول: فعلى الجميع أن يقدموا ولاءهم له وأن يتبعوه دون مناقشة أو اعتراض!! وها هو من هو أعلم منهم، يقول لمن هو أعلم منهم أيضا{قال الرسول موسى عليه السلام للخَضِرِ:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا}؟ قَالَ لَهُ الخَضِرُ: يَا مُوسَى، إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لاَ أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لاَ تَعْلَمُهُ} (البخاري:4727) لماذا لا يَعْلم هذا المبدأ (مبدأ التكامل العلمي وهو من سنن الله في خلقه) لماذا لا يعلم هذا السياسيون المستبدون، والدعاة المغرورون أكثر بغرورهم. وقد قيل لشاعر قد عربد بكلامه بعد خمرة عبثت بعقله: اسمع يا من جهلت كل معرفة ولم تدر قيم الأشياء، دع عنك الخمر واسمع مني حكما يا فاقد العقل والعرض والشاء. فرد عليه الشاعر:{دع عنك لومي فإن اللوم إغراء… وداوني بالتي كانت هي الداء. وقل لمن يدعي في العلم معرفة… حفظت شيئا وغابت عنك أشياء}؟! قال تعالى:﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ يرفع الله تعالى بالعلم الصالح وبالتوفيق للعمل الصالح، ويهدي لمعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها بالحكمة، كما رفع درجات يوسف عليه السلام على إخوته، قال عز وجل:﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[يوسف:76] فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم الكامل المطلق إلى عالم الغيب والشهادة، فكل عالم يقف عند درجة من العلم وهو يحتاج إلى غيره ليكتمل لهما أو لهم العلم في الأمر الذي يريدونه، لذلك قال الخضر لموسى عليهما السلام:{إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لاَ أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لاَ تَعْلَمُهُ} ليتواضع لله وينفي عن نفسه الكمال العلمي، وليعترف بالعلم للآخر وأنه على علم آخر من غير الذي يعلم هو أي الخضر، والذين ينسون سنة التكامل بين بني آدم وأن الكمال لله تعالى وحده، وأن العالم المجتهد مهما بلغ من درجات المعرفة فإنه لا يجمع كل العلم، وأن الحاكم مهما كان على علم وفقه وبصيرة فإنه مفتقر إلى الشورى، فإن الناسين المغرورين قد يطلقون على أنفسهم أو يطلق أتباعهم عليهم: لقب الإمام المرجع، أو شيخ الإسلام، أوسلطان العلماء، أو العلامة البحر الفهامة النِّحْرِير، وغير ذلك من الألقاب التي يصفون أنفسهم بها وحدهم ويسدون على غيرهم الأبواب، وينسون أن: فوق كل ذي علم عليم، وأن التكامل سنة كونية عقلية من سنن الخالق الحكيم. لا ينتفع الناس بألقابهم دون العمل الظاهر من كسبهم، لا بالدال أو الدالات، ولا بالشيخ، ولا بسمو فلان، ولا بسماحة الشيخ فلان، إنما بعلم يُظْهِر أدبا وينتج نفعا {كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب. إن الفتى من يقول ها أنا ذا… ليس الفتى من يقول ذا لقبي فالناس للناس من بدو وحاضرة… بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم}.
فما هي مقتضيات التكامل: فالإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة والذكاء أنه لا يستغني عن غيره، لذلك فرض الله تعالى على المسلمين قِيَمًا ثقافية اجتماعية أخلاقية إن لم يعملوا بها يُلامُون ويَأْثمون ويعاقبون في الدنيا بالأزمات والحرمان، وفي الآخرة إن لم يتوبوا ويصلحوا فبالندم والأحزان، ومن القيم الاجتماعية الواجبة: القيمة الأولى: التعاون: في كل دوائر الحياة المجتمعية، التعاون بين الزوجين، وبين الوالدين والأولاد، وبين الجيران، والتعاون بين العلماء والحكام، والتعاون بين كل المؤمنين والمؤمنات، والمواطنين والمواطنات. قال الله تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ رغم أن النساء يدخلن في الخطاب العام للمؤمنين فإن الله ضمن هذه الآية هذا التفصيل والتأكيد بذكر المؤمنين الرجال والمؤمنات النساء لأن موضوع الآية هو السياسة العامة للدولة، فجاء التبيان المفصل ليعلم الكافة أن المرأة مسئولة كأخيها الرجل، وهناك أعمال تقوم النساء لا يستطيعها الرجال وحدهم أو ليست من اختصاصهم، فرسمت الآية مبدأ التكامل والتعاون بين الرجال والنساء.
القيمة الثانية: قيمة الشورى: الشورى بين العلماء الدعاة الفقهاء في نشر العلم والدعوة والإفتاء. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[الشورى:38] قال المفسر السعدي في تفسير الآية: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي: انقادوا لطاعته، ولبّوا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة لله، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلذلك عطفهما على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه وفضله فقال:﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾ أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ من النفقات الواجبة، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.
﴿وَأَمْرُهُمْ﴾ الديني والدنيوي ﴿شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتآلفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموما، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية} قلت: ومن باب أولى أن يجتمع العلماء والمفكرون والباحثون وجوبا لاختيار إمام الأمة يتشاورون ويجتهدون، فإذا استقر رأيهم على من له الكفاءة نَصَّبُونه ليتولى الحكم بشريعة الله، فالحاكم يُخْتار بناء على شورى العلماء، وليس على عواطف العامة، فإن ديمقراطية الإسلام أن يتول العلماء مجتمعين اختيار الحاكم الذي تتوفر فيه شروط الإمامة الكبرى، من السلامة البدنية الكاملة، والعلم، والسيرة الحميدة، والمكانة أي مكانته في المجتمع، والتعهد بالتضحية، والتعهد بأنه يعمل بما شرعه الله تعالى، وتنصيبه من قبل العلماء، وإن أخل بشرط من الشروط عزله العلماء.
القيمة الثالثة: إحصاء كل القدرات والطاقات وتوظيفها: المجتمع المسلم المتضامن يوظف كل فرد في المجال الذي يستطيع العمل فيه والإضافة من خلاله، فلا مكان للعاطل في مجتمع المسلمين، ومسئولية هذا التوظيف تقع على عاتق إمام الأمة، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، فإذا لم يستطع الإمام تولية كل فرد قادر على العمل في المكان المناسب، وأن يتفقد كل عاجز أو فقير محروم ويمد له يد العون، ويعطيه حقه من الزكاة، التي هو مسئول عن جمعها بأحكامها وتوزيعها بالعدل في أبوابها، أي الحاكم هو المسئول عن جمع الزكاة وتوزيعها.
والخلاصة أن قيمة التكامل العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي تقتضي أمورا أخرى ومنها الأخلاق: خلق الصبر والتضحية والتواضع والإخلاص، فالذين بنوا الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كانوا على هذه الأخلاق، وبها نصرهم الله فنجحوا في البنيان وبها وفقهم الله لفتح البلدان، وبها رضي الله عنهم ورضوا عنه. واستحقوا أن يمدحهم الله ويخلد ذكرهم في القرآن﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:8/9].