قضايا و آراء

التنمية المجتمعية بالفروض العمرانية، لا بالقروض الإنعاشية/ محمد مكركب

بعض الدول التي تعاني البطالة، وانعدام الاكتفاء الذاتي، ولها ثروات تسترزق من عائداتها، إلى حين، تريد تشغيل شبابها بقروض بنكية، لتمويل مشاريع ارتجالية، في صناعة استهلاكية، أو تجارية تقليدية. ونقول لمثل هذه السياسات في بعض البلدان العربية، بأن التنمية المجتمعية (التقدم الشامل) ليس في القروض المالية الإنعاشية، ولا في الوظائف الوهمية، ولا في الهجرة الداخلية والخارجية، وإنما في الفروض العمرانية، بناء عل ما بيناه في أسس بناء الدولة، في خارطة عمرانية محكمة.قلت: “بالفروض العمرانية، لا بالقروض المالية” هذا العنوان تطبيق للمثل الصيني. “لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف اصطاد”.

فالموضوع إذن يحتاج إلى دراسة واعية حكيمة، ومقاربة ذكية سليمة، في الاقتصاد السياسي. فالتنمية المجتمعية، والتي تعني تطوير المجالات الرئيسة في المجتمع، تقتضي أن نتعلم الاستثمار، بمنطق الحرف الإنتاجية، عن طريق فن الإبداع. بدءا من فكرة ( الحبل والقادوم).فلا نفكر، في القرض والاقتراض، ما دمنا نملك، قيمة الحبل والقدوم، وإنما علينا بالفروض العمرانية، والفروض جمع فرض، كما تعلم، ومن الفروض على الإدارة العامة (الحكومة) إعداد الأركان الكبرى الأساسية للاقتصاد، وحينها يجد كل فرد مكانه المناسب، لقدراته، وإمكاناته، الخاصة، بمجهوده الذاتي، تلقائيا. (بسياسة الحبل والقدوم على الأقل، في البداية) ولكن تذكر: “عندما يكون التعليم مقصديا، والتربية حكيمة”.

ومن الأركان الأساسية للتنمية المجتمعية: الطرق الكبرى الشاملة للوطن، وهي شرايين الاقتصاد، وبوابات الإمداد، ومفاتيح الإعداد، ولكنها الطرق الصالحة فعلا، تلك التي تسمى “طرقا للسير سريع، لا طرقا للسير الوجيع”، يراد الخالية من الحفر، والمعطلات، كي تصلح على الأقل، للقرن الثاني والعشرين. ثم السكك الحديدية، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، والرحلات التي لا تؤجل، ولا تلغى.والمدن العامرة بما يواكب مدنية العصر. وليست المدن المقصودة هي تلك العمارات التي تزحف على الزراعة والبساتين، والحقول الفلاحية بلا حياء، أو البناء الذاتي الفوضوي هنا وهناك، بلا هندسة عمرانية، ولا خرائط استراتيجية. إنما المدن المطلوبة المحققة للتنمية المجتمعية، للتقدم والازدهار. هي المدن التي عندما يدخلها الزائر يشعر وأنه دخل مدينة.

لذلك قلنا الفروض العمرانية. فما معنى العمران؟ العمران.من عَمَرْت الخَرابَ أَعْمُره عِمارةً، فَهُوَ عامِرٌ أَي مَعْمورٌ. وعَمَر الرجلُ مالَه وبيتَه يَعْمُره عِمارةً وعُمْراناً: لَزِمَه بما يتعهده من التشييد. والصيانة. والمكان المعمور، أو البيت المعمور، أي: المخدوم. واستعمره في المكان جعله يعمره، وفي القرن الكريم: {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، أَي: أَذِن لَكُمْ فِي عِمارتها، واستخراجِ قوتكم مِنْهَا، وجعَلَكم عُمَّارَها. فمن الفروض العمرانية على الدولة توصيل الكهرباء إلى كل ربوع الوطن، وتوصيل المياه، والمرافق التعليمية، والصحية، والتجارية.

ومن بين أهم الفروض العمرانية على الدولة، إعداد وسائل النقل، والمواصلات المنظمة، والمضبوطة بالتوقيت الحضاري، الذي يتماشى وروح ثقافة الثانية، مع الشبكة العنكبوتية، والهاتف الذكي. أعني: المواصلات بين كل مدينة، وقرية، وحي، على الإطلاق. حينها تتحرك عجلة التنمية. يعلمنا الله أن من النعم علينا القرى الظاهرة، المتقاربة، المحققة للتواصل، والراحة، والحركة العمرانية. قال الله تعالى:{وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18].

فليست وظيفة الحكومة أن تعطي القروض، وإنما واجبها أن تقوم بالفروض. فإذا قامت بالفروض، أراحت الشباب من الطمع في القروض.

قال محاوري: ربما مازال الكلام غيرَ واضحٍ للقارئ. لماذا لا تعطى القروض للشباب، وهم يجتهدون؟ ويستثمرون في مجالات تخصصاتهم، في النقل، والتجارة، وبذلك نقضي على البطالة. قلت: هذا تفكير خاطئ. لعدة أسباب:

1 ـ على أي أساس يعطى هذا الشاب من دون غيره؟ كيف توزع القروض بالعدل، لتساوي الفرص بين الجامعي وغير الجامعي، وكل العاطلين؟.

2 ـ الشباب لا يملكون الخبرة الكافية، لإدارة المشاريع، ولذلك أفلس الكثير منهم، وضاعت القروض، وهي من مال المسلمين الذي نسأل عنه، لأن فيه مال اليتيم، والفقير، والمريض، والتعليم، والصحة.(والتبذير حرام).

3 ـ إذا كان كل شاب يعمل في انفراد ويريد مصلحته الخاصة، فهو يفضل الربح السريع، ولا ينظر إلى التنمية المستدامة.

4 ـ قد يصرف الشاب المقترض القرض في شؤونه الاستهلاكية ولا يبالي.

5 ـ القروض ليست حلا لمشكلة البطالة، إنما تزيد البطالة الْمُقَنَّعَة.

6ـ تحويل المجتمع من الفكر الإنتاجي المصدر، إلى الفكر الاستهلاكي المستورد. فالشاب المنفرد بالقرض، وهو يقصد الربح السريع، لا يفكر في صناعة الجلود على سبيل المثال، وإنما يفكر في حاوية أحذية من الخارج، ولا يفكر في غراس شجر الزيتون، وإنما كيف يستورد الزيت من الخارج؟ وهكذا…

قال: ولكن من يقوم بدراسة وضعيات كل الشباب العاطلين؟ قلت: ما هو دور مجالس التخطيط؟ ما هو دور مجالس الشورى؟ ما هو دور الهيئات والإدارات في وزارة الفلاحة، والصناعة، وسائر الوزارات؟

إنهم هم المسئولون عن الخرائط الاقتصادية المتكاملة المدروسة. وإحصاء كل العاطلين عن العمل على الإطلاق، في جدول بياني شامل الإحصاء، بالغ الدقة. ثم يتم توظيفُ كل فرد وفق تخصصه، ومستواه، وقدراته، وميوله. هذه هي الفروض الواجبة على الإدارة العامة (الحكومة).حيث يفرض المنطق الحضاري المعاصر، ووفق معالم المستقبل، أن كل من لم يكن له مكانٌ عادٍ، في الدراسة، أو الوظيفة، أو الخدمة الوطنية، أي كل من هو بغير مهنة مشروعة، يُدْعى قبل أن يطلب هو نفسه العمل، يدعى إلى الجهة المختصة ويوجه إلى ما ينفعه، وينفع المجتمع، بكل احترام. هذه الدراسات والإعدادات هي التي بفضل الله تعالى، تحقق الأمن والاستقرار، والتقدم والازدهار.

الهدف البعيد من وراء تلك المقاصد: هو إرساء قواعد الحضارة، بحسن تنظيم واستثمار المكان، والزمان، والإنسان، وهذا من واجب السلطة العامة. فأين الخارطة التي تبين رسميا أين تقام المدن؟ وأين هي الأراضي المخصصة للبناء، بعد دراسة تقنية علمية. وما هي المساحة الجغرافية المخصصة للفلاحة؟وكيف؟وأين تقام المناطق الصناعية؟ الصناعة الإنتاجية، لا الصناعة الاستهلاكية؟

زرت بلدا أجنبيا، وساقني الفضول من قبيل الاستطلاع والملاحظة، فدخلت دار بلدية، وطلبت زيارة استقبال رئيس البلدية، فأتيحت لي الفرصة، ورحب بي رئيس البلدية، بعد أن أخبر عن هويتي. وكان من الذين لا يتقنون تضييع الوقت، وكأنما كنت على موعد معه منذ زمن. وراح يعرفني بالبلدية ومرافقها، بواسطة خريطة أمامه على جدار المكتب تكاد تنطق وحدها، لشدة وضوحها، وكمال معلوماتها. قلت له: أريد جوابا عن سؤال واحد، أحتاجه كعينة لدراسة أقوم بها. قال تفضل، قلت: كم هو عدد الشباب الذين بلغوا سن الثامنة عشر، وهم دون عمل. قال: ثلاثة، وراسلناهم، ووَجَّهْنَاهُمْ إلى العمل، وطلبوا الانتظار، لأن لهم دخل من ذويهم يساعدونهم في حرفهم، ثم قال: أنظرني، لحظة. تحول إلى الحاسوب ونقر على ملف الإحساء، باب الشغل والوظائف. وخرج الجدول أمامنا على الشاشة الكبيرة، التليفزيونية، فإذا بالعدد ثلاثة في باب: أفراد لم يرتبوا في الهيكلة الاجتماعية، بالمعلومات الكاملة، وشدني الإعجاب، فقلت تسمح بسؤال ثان؟ قال: تفضل. قلت: كم عدد سكان البلدية؟  قال إلى حد الساعة الثانية عشرة، (وكنا الساعة الثالثة مساء) كان عدد سكان البلدية: (365347 نسمة) وبمفاتيح خرائطية يمكننا من خلالها معرفة حالة كل شريحة، وظروفها الاجتماعية؛ ولا يوجد، فرد مسجل رسميا في قائمة مواطني البلدية لا يتمتع بكامل حقوقه الاجتماعية، كسائر المواطنين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com