ما أحوجنا لفقه التاريخ وفهمه والوطني منه خاصة…/ محمد العلمي السائحي
قد يرى بعض الناس في التاريخ أنه مجرد سرد لأحداث وقعت في زمن ما وفي مكان ما، أو روايات وقصص وحكايات تروى في المجالس، تمضية للوقت، ودفعا للملل، وإن صح ذلك فإنه لا يصح على مطلقه، وإنما هو كذلك لتجل واحد من تجليات التاريخ كما يتبدى لنا، حيث أن للتاريخ تجليات أخرى كثيرة ومتنوعة، يمكن أن نعد منها أنه منبع للعظات والعبر، وذلك جانب نبه إليه القرآن وأكد عليه في أكثر من آية من مثل قوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[النمل69]، ومنه أنه تعريف الإنسان وتنبيهه أن عزة ومنعة الأمم وتمكينها في الأرض ليس رهن بالوسائل المادية وحدها مهما كانت وفرتها بالغة ما بلغت من التقدم والتقنية، بل ذلك مجرد مطلب واحد من مطالب التمكين يستوجب أن تحقق مطالب أخرى إلى جانبه ليتحقق التمكين للأمة، وذلك ما أشار إليه القرآن في قول الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[الروم/9]، ومنه أن التاريخ مصدر هام للقيم الإيجابية تبعث الهمم وتفعّل الإرادات، وتدفع الفرد والمجتمع على حد سواء إلى طلب الأفضل والأمثل والتوق إلى الأجمل والأكمل، ومنه أنه شاهد صادق على أن انهيار الحضارات وسقوط الدول، وذهاب ريحها، يسببه ما يتطرق إلى أخلاقها العالية من ضعف، فإذا هوى بنيان أخلاقها، فشا فيها الفساد، وكان ذلك إيذانا بسقوط البلاد وضياع العباد، ومنه أنه دليل وبرهان على أن الحدث التاريخي ليس هو بحد ذاته بشيء، وإنما الإنسان الذي ورائه هو كل شيء، ومن ثمة علينا أن نبحث عن الأفكار والعواطف والمشاعر المتوارية خلف الحدث، لأن الأحداث التاريخية محركها الأساس هو الإنسان، ففهم الحدث التاريخي يتطلب إذن فهم الإنسان الذي صنعه وتسبب فيه، ومنه أيضا أنه شاهد حي على حاجة الفرد للجماعة وحاجة الجماعة للفرد، من ذلك أنم الفرد مهما كان ذكاؤه، وكيفما كانت عبقريته، فإنه في حاجة إلى الجماع، ليستعين بقوتها المادية والمالية، لتحقيق ما ارتضاه لنفسه من أهداف وغايات، كما أن الجماعة لا غنى لها عن قائد يقودها وينسق بين جهودها حتى تتمكن من بلوغ مقاصدها في هذه الحياة، ومنه أنه مبعث للفخر بما يحتوي من أمجاد ومآثر أنجزها الآباء والأجداد وذلك يحرك في الأفراد نزعة الانتماء لهم والانتساب إليهم، كما يبعثهم على منافستهم في ذلك، ويدفعهم إلى الغيرة على أمتهم والحرص على أن لا يلحقوا بها سبة تصمها، أو الإتيان بفعل يشينها.
تلك هي تجليات التاريخ وفلسفته الحقة وليس عجيبا أن نرى الأمم الحية اليوم تعنى بتاريخها كل العناية وتعنى بتدريسه وتعريف ناشئتها بما انطوى عليه من أمجاد ومآثر، لينشأوا على حب أمتهم والاعتزاز بالانتماء إليها، بل هي قد رأت فيه سلاحا استراتيجيا فاستعانت به في تقوية شوكتها وإضعاف وكسر شوكة خصومها وأعدائها، وتاريخنا شاهد على ذلك فكلنا، نذكر كيف أن المحتل الفرنسي حرمنا من التعرف على تاريخنا الوطني وفرض علينا دراسة تاريخه هو على أنه تاريخنا، ليذيبنا في مجتمعه وحضارته، ولا تزال القوى العظمى اليوم تتلاعب بتاريخ الأمم المغلوبة على أمرها كالبلاد العربية والإفريقية وحول اهتمامها إلى دراسة التاريخ القديم بهدف إضعاف انتمائهم للأمة الإسلامية الكبرى على أساس أن أصولهم مختلفة وأنهم ليسوا عربا وإنما عربهم الإسلام وأنه هو الذي هدم حضارتهم وأزال دولهم وذهب بسلطانهم ولذلك استثمر روكفلر أموالا كثيرة في الدراسات الفرعونية في مصر وبذلت بريطانيا بسخاء على الدراسات التاريخية والأثرية في مصر والعراق.
وهذه إسرائيل شاهد حي على ما للتاريخ من أثر قوي وفعال في المساعدة على إنشاء الدول، وفرض وجودها والتمكين لبقائها وديمومتها، حيث استعانت بالتاريخ لإقناع اليهود في الشتات بالمجيء إلى فلسطين والاستقرار فيها، ثم وظفته في إقناع المجتمع الدولي في أن لها حقا في فلسطين، وهي توظفه الآن للاستيلاء على ما بقي من أرض فلسطين.
ونحن في الجزائر ضحية لاستخدامهم معارفهم التي تراكمت عندهم عن تاريخنا الوطني في تقسيم صفوفنا وضرب وحدتنا حيث استثمروا في الخلاف اللغوي، وشغلونا بالصراع المفتعل بين الأمازيغية والعربية بدل أن يكون الصراع بين العربية والفرنسية، واستثمروها في الخلاف المذهبي فأثاروا الفتنة بين الإباضي والمالكي، وكادت الفتنة أن تشتد وتعم لولا أن الله قدر ولطف، واستثمروا في التفاوت بين الشمال والجنوب، وهم لن يتوقفوا عن ذلك أبدا.
لذلك نحتاج فعلا إلى إعادة النظر في تاريخنا الوطني وتنقيته من كل ما يشوبه من شوائب يمكن أن يستغلها العدو في الكيد لنا وضرب وحدتنا وتقسيم صفوفنا، ونحتاج إلى إعطائه المعامل الذي يليق به في منظومتنا التربوية بما يجعل الأبناء يعتبرونه مادة أساسية لا ثانوية، ونحتاج إلى العناية بمن يتلون تدريسه في مدارسنا حتى نطمئن إلى كفاءتهم وقدرتهم على الإقناع.
إن التاريخ لمن يفقه كنه هو المنجم الذي نستخرج منه القيم النفيسة التي نعول عليها في صناعة المستقبل وبناء الأمة وتفعيل الإرادة، وبعث الهمة للتحرر من التبعية لمحتل الأمس، وامتلاك القدرة على التصدي للعدو المتربص.