الصلاح والإصلاح من تزكية النفس إلى بناء الدولة/محمد مكركب
سبب تخلف الشعوب وسقوط الكثير من الحكام بل والعلماء التقليديين في فخ النزاع والصراع بل والحروب الأهلية بينهم كحال الغلمان المراهقين، هو العمل الفوضوي المصبوغ بالعفوية البريئة تارة، والغبية الساذجة تارات أُخَر، يريدون والأصح أنهم يقولون بالإصلاح ولكن بغير نية علمية، ولا تخطيط مشهود عن دراسة، ولا تكامل ولا استدلال بالقرآن والعلوم المكتسبة، ولا شورى علمية شاملة، بل كانوا ولا يزالون إلى يوم كتابة هذا المقال، يُحَكِّمُون الرأي الانفرادي، والعفوية والارتجال، وكثير من الاستبداد، في اندفاع ومغامرات، لا تخضع لميزان العلم والإيمان، ولا لمنطق السُّنَنِ والبرهان، وذلك كما حدث أيام الفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام، وفي الخلافة الأموية والعباسية، وفي القرون الوسطى وبين ملوك الأندلس، وإلى عَبَثِيَاتٍ سياسية في عهد الخلافة العثمانية، والفتن والمصائب كثيرة لا تسعها المجلدات، فضلا عن أن يسعها مقال أو مقالات، ولكن النصيحة: أن يحذر الحكام الحاليون والدعاة المتخاصمون من الغفلة، التي غرقت فيها الشعوب المسلمة المتخلفة، والنصيحة تقول: تعالوا إلى العمل بميزان القرآن للتحرر من قيود وألاعيب الشيطان.
كثيرة هي الآيات القرآنية التي بين الله تعالى فيها وجوب تلازم الإيمان والعمل الصالح، منها قول الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة:82] وقوله عز وجل:﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [سورة يونس:9] وهدف المقال الذي بين يديك الآن هو: تبيان قوام العمل الصالح، أي بيان أسس العمل الصالح؟ حتى لا يقع الناس في ظلم أنفسهم كالذي سقط فيه المنافقون الذين أخبر الله تعالى عنهم:﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾[البقرة:11] والمقصود من المقال: إصلاح النفس بتزكيتها وتهذيبها والبلوغ بها مراتب اليقين بالقيم الإيمانية، فمن الأولويات التي تعلمناها من السيرة النبوية في سنة النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، البدء بتزكية النفس أي ببناء الفرد ـ كما يقال ـ فعندما تصلح النفوس ثم الأُسر يصلح المجتمع ثم الدولة، أما عندما يكون مدير أو وزير أو مستشار في الدولة وهو يضيع الصلاة ويرتكب الكبائر فكيف يرجى منه أن يبني الدولة ويحافظ على مجد الوطن، والذي لا يخاف ربه ولا يتقيه كيف يرحم عباد الله ويرحمهم؟ ثم إن الإصلاح ليس بالرأي والهوى، إنما بأحكام كونية وشرعية مفروضة إن تحققت مقاصدها كان الصلاح والإصلاح، وإن عُمِل بما يخالفها كان ذلك هو الفساد والخسران، وقديما قيل:{من خان الله في المحراب خان الناس في كل باب} فلو صلحت النفوس لصلحت الدول.
أولا: مفهوم الصلاح والإصلاح: الصلاح؟ هو الاستقامة، والسلامة من العيب والنقص، والشيء الصالح هو ما اكتملت فيه خصائصه ومواصفاته التي فُطِر عليها، أو صنع بها، ليؤدي الغاية من وجوده، والفساد نقيض الصلاح. فالعمل الصالح اصطلاحا: هو ما كان موافقا للأحكام الكونية التي خلق الله على هديها الكائنات، وموافقا للكتاب المنزل أي الوحي، والعمل الفاسد هو: ما كان مخالفا لحكم من الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية. والإصلاح هو إبعاد ما هو فاسد وحرام، ووضع مكانه الصالح والحلال. كإبعاد السارق ومنعه من السرقة، ووضع الأمين في منصب الأمناء وحفظ الأمانة، وكإبعاد البنوك الربوية المستهلكة الفاسدة، ووضع البنوك الشرعية المستثمرة المعمرة، وإبعاد الشباب عن اللهو واللغو والعبث وتوجيههم إلى البرامج التعليمية الهادفة التي تعلمهم الاستثمار والإعمار وقيم البناء الحضاري.
فالصلاح والإصلاح كما ورد في عنوان هذا المقال:(من تزكية النفس إلى بناء الدولة). هو تمكين الشاب والفرد بصفة عامة كيف يحيا حياة إنسانية متكاملة: استقامة وكمال إنساني في عبادة ربه عز وجل بالإخلاص والصواب، وكيف يتعاون مع بني جنسه بالتكامل والآداب، وكيف يحقق الاكتفاء الذاتي لنفسه ماديا بمباشرة الإنتاج، أو بالمقايضة والتعويض المباشرين أو غير المباشرين، ثم كيف يشارك في تطوير المدنية. واعلم أيها الإنسان أن تزكية النفس في عملية الإصلاح تقوم على صلاح مناهج التربية والتعليم.
ثانيا: الطريقة العملية في تزكية النفس البشرية:
طريقة تزكية النفس هي منظومة آليات وتقنيات محددة ومشخصة تُلَقَّنُ للطفل، والغلام، والشاب، ويدربون عليها. منها: التعامل مع السنن الفطرية بنظام: كالنوم والأكل واللباس والجلوس والنظافة والسمع والكلام. ومنها التواصل مع المحيط: كالقراءة، والسفر، واللقاء، والحوار. ومنها العمل: كتعلم الحِرف، والصنائع، والبحث العلمي، والقيم الأدبية.
{كن ابن من شئت واكتسب أدبا** يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا**
ليس الفتى من يقول كان أبي}.
ومنها أي ومن منظومة تزكية النفس، تربية الفكر: كحب المهنة، والإتقان، والتضحية في سبيل إسعاد الناس للوصول إلى قمة التزكية وهي اليقين بأن الإنسان ابنُ سَعْيِه وكما يدين يدان. وتبدأ مرحلة التدبر والتعقل وإعمال الفكر.
فعن أبي هريرة رضِي الله عنْه، قَال: قَام رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم حين أَنْزَل اللهُ عز وجل:﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء: 214]. قَالَ:[يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا] (البخاري:2753).
ثالثا: بناء الدولة بالأمناء الصادقين: كان أحد المصطلحات يستعمل في الفلسفة الشرقية (الرجل المناسب في المكان المناسب) وظل زمنا يُتَدَاوَلُ على ألسنة السياسيين المستبدين والغارقين في التبعية لغيرهم، والعاجزين، دون أن يُبَيِّنُوا ماذا يقصدون بالرجل المناسب؟ ولا بالمكان المناسب؟ وربما لو قالوا الحقيقة وهي أن صفات الرجل المناسب، أنه الذي له مستوى من العلم الأعلى من غيره في ذلك المنصب والذي له شهادة علمية تؤهله لذلك المنصب، وأنه الحريص على التدين، والمتخلق بكذا وكذا، والقادر على تسيير وتحمل مسئوليته لخبرته وتجربته الظاهرة للناس، لو قالوا هكذا لما وجد كثير منهم مكانه حيث هو. ولعلموا أن تسعين بالمائة من المسئولين غير مناسبين وليسوا في المكان المناسب، وهم أسباب التخلف والفتن والمصائب كلها.
مثال كررته عشرات المرات: لو كان بعض المسئولين المتخلفين المستبدين من جملة ركاب طائرة وهم في جو السماء، وقيل لأحدهم تقدم وقد بنا هذه الطائرة حتى تصل بنا إلى غاية رحلتنا، لصرخ بأعلى صوته دون انتظار لمح بصر وقال: أتهزؤون؟ أتريدون أن أهلك نفسي وإياكم،؟ أنا لا أعلم اسم قطعة واحدة مِمَّا في الطائرة فضلا عن قيادتها!! ولو سألته لأقر بالحقيقة وهي أنه عندما يُقَدَّمُ العالم بالمهمة والصنعة والأمانة في أي اختصاص فإنه ينفع نفسه والمجتمع، ويحمي نفسه والمجتمع من الهلاك. أما عندما ينزل هذا المسؤول إلى الأرض فإنه يَدَّعِي بأنه يحكم المطار وما فيه، والموانئ والبشر، والمؤسسات المالية والإدارية، والتربية والتعليم، والاقتصاد ومستقبل البلاد، ولو قلت له: هل لك شهادة في علم النفس لتسير البشر؟ أو شهادة في الاقتصاد والتسيير، أو في الإدارة، وما هي القطعة من المجتمع التي لك فيها علم؟؟ لسكت، ولكنه يبقى في الحكم والتسيير يبقى يهلك نفسه والمجتمع ولا يبالي، ويبقى مُهَمِّشًا ومُعَطِّلا للطاقات، ومُصِرا على أن يضل المسئول في منصب المسئولية!!، وتقول له: فكيف تستبد بتسيير وطن يحمل ملايين البشر، ولا تخاف أن تهلك نفسك وإياهم، وفي الطائرة خشيت أن تهلك نفسك وما في الطائرة؟؟ والمقصود بهذا المسئول الْمُتَحَدَّث عنه هو كل من ينطبق عليه الكلام. من الموظف العامل العادي إلى المدير، والمير، والوالي، والوزير، والبرلماني، والرئيس، كل من كان في منصب بغير علم ولا خبرة ولا دراية. أما من كان كيوسف عليه السلام حفيظا عليما فإنه محمود مشكور، وهو الذي يبني المجتمع والدولة، فيوسف عليه السلام عندما قدم نفسه للمسئولية، وقال:﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ حقا إنه كان حفيظا عليما.