وحدة الأمة في المدونة الإسلامية المعاصرة /بقلم د. إبراهيم نويري
تمهيد:
شدّد القرآن الكريم في مختلف مراحل التنزيل الشريف، التي استغرقت ثلاثة وعشرين سنة، على موضوع وحدة الأمة المسلمة، وعلى مركزيته في أمر العبودية لله تعالى، كما نقرأ في قول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]. ودعا إلى ضرورة الاعتصام والتآلف والتآخي، حيث قال:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[آل عمران:103]. كما شدّد أيضا في السياق نفسه على أهمية وحدة الصف ودور تماسك قوى الأمة الداخلية في تحقيق نصر الأمة و عزتها، وبيّن أن التنازع والتناحر أخطر مقوّض لمناعة الأمة كما في قوله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
وكذلك فعلت السُنّة المطهّرة، كما نقرأ في أحاديث كثيرة، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تختلفوا فإنّ مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا” [أخرجه البخاري في الصحيح: 2/849].
ونظراً لهذه الخلفية الشرعية الراسخة والتوصيات الإيمانية اليقينية بإزاء مسألة وحدة الأمة، نجد أن الفكر الإسلامي المعاصر بشتى تياراته ومدارسه وأعلامه اهتمّ بهذا الموضوع وأنتج فيه العديد من الأبحاث والدراسات، وسعى إلى معالجة أبرز مضامين ومكوّنات هذه الوحدة وسبل تحقيقها وشحذ فعاليتها بالوسائل الممكنة، وفي هذا المقال نحاول تسليط قليل من الضوء على أشهر تلك الدراسات والمؤلفات، وهي كالآتي:
1ـ كتاب العروة الوثقى لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده رحمهما الله:
مَن تُتاح له فرصة الاطلاع على هذا الكتاب سوف يجد أن في أصله عبارة عن جملة المقالات التي دبّجها يراع الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ونُشرت في جريدة “العروة الوثقى” التي تربّص بها الاستعمار والقوى الراصدة المتربصة بأي محاولة لإيقاظ المسلمين ونهضتهم الفكرية والحضارية؛ ولعلّ أهميّة هذا الكتاب تكمن في نشر الوعي السياسي ـ خلال المرحلة التي ظهر فيهاــ وإقناع العالم الإسلامي بقوته الذاتية، وأن بإمكانه أن يكون قُطباً عالمياً مؤثراً في أحداث العالم والعلاقات الدولية، وعليه ينبغي أن يحقق المسلمون جميعاً استقلالهم الوطني بالتغلّب على الاستعمار الأجنبي، ليتمهّد السبيل بعد ذلك أمام العالم الإسلامي، كي يحقق وحدته المنبثقة عن حقيقة مشروعية “وحدة الأمة” بالصورة التي حثّ عليها الشرع الحنيف.
وجدير بالتذكير أنّ أهميّة هذا الكتاب تكمن في المقام الأول، في تشريح أوضاع العالم الإسلامي الداخلية والوقوف على أسباب ضعف المسلمين، لأن وصف الدواء يقتضي تشخيص الداء بدقة متناهية ومناصحة الأمة بصدق؛ ومن ثمّة فإن مضامين هذا الكتاب يمكن تصنيفُها ضمن سياق ومحتويات المعرفة الإسلامية الوحدوية التي تدعو إلى ضرورة الوعي بخطر التفرّق والتشرذم والتشتت، خاصة عندما تكون الأمة تعيش حالة الوهن أمام قوة وغطرسة الأعداء.
وقد خلا الكتاب من المقترحات والخطط الواقعية المؤهلة أو القابلة للتجسيد الفعلي في مجالات الوحدة المتعدّدة، أي المجال الفكري والثقافي والتربوي والسياسي والاقتصادي .. إلخ. الأمر الذي جعل منه كتاباً أو مدونة تستهدف إيقاظ الهمم في المجال السياسي. خاصة أن المرحلة التي ظهر فيها كانت مرحلة تتطلع للتخلص من آثار وأغلال الاستعمار العسكري الذي ربض طويلاً على كيان أقطار العالم الإسلامي.
2ـ كتاب الوحدة الإسلامية والأُخوة الدينية للشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله:
شغلت مسألة الوحدة الإسلامية تفكير الشيخ محمد رشيد رضا كما يتضح في مؤلفاته وتفسيره الشهير “تفسير المنار” حتى إنه عندما انتقل إلى القاهرة بادر إلى تأسيس كلية الدعوة والإرشاد سنة 1330 هـ/1912م، من أجل التصدّي لمشكلة التعصّب المذهبي، ونشر ثقافة الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية. وكان يعبّر عن هذا المطلب بضرورة الاتفاق والاتحاد الإسلامي ونبذ الخلافات والعداوات الدينية والسياسية، التي تسبّبت في تمزيق شمل المسلمين وأضعفتهم أمام أعدائهم. ولعلّ اهتمام محمد رشيد رضا بهذه المسألة والتركيز عليها وإفرادها بكتاب ضخم، كان بسبب تأثره بمقالات “العروة الوثقى” وما بثّ فيها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، من أفكار وآراء تدعو إلى وحدة الأمة وتفعيل عناصر القوة في كيانها كي تتمكّن من استعادة عافيتها مرة أخرى.
بيد أن الناظر إلى فصول هذا الكتاب سوف يلاحظ دون صعوبة في الاستنتاج بأن المؤلف قد غلبت عليه المعالجة الفقهية للمسائل التي عرض إليها في كتابه، مثل “مضار تعصّب المذاهب”، “التقليد والوحدة في السياسة والقضاء”، “التفرّق بعصبية المذاهب معصية بالإجماع”، “الاجتهاد والوحدة الإسلامية”، “الوحدة الإسلامية والاستفادة من جميع المذاهب” .. إلخ. لذلك فإن هذا الكتاب على أهميّته لا يُعدّ بنظري من الكتب التأسيسية في مسألة الوحدة الإسلامية بأبعادها وآفاقها الشاملة، بقدر ما يُعدّ لبنة مهمة في التقريب بين المذاهب الإسلامية ومسائل الاجتهاد على أسس علمية أصولية. أي أن معالجات هذا الكتاب انصبّت على صعيد واحد من قضايا وحدة الأمة، وهو صعيد التعصب المذهبي، والدعوة إلى التقريب والاطلاع على كلّ الآراء في مذاهب الفقه الإسلامي والإفادة منها، لأنها نابعة من مشكاة واحدة، هي تفاعل العقل المسلم مع النصوص المعصومة لديننا الحنيف وشريعتنا الغراء.
3ـ كتاب الوحدة الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله:
إن أصل هذا الكتاب رسالة مختصرة كتبها الشيخ محمد أبو زهرة لسلسلة” الثقافة الإسلامية” التي كان يشرف عليها محمد عبد الله السمان رحمه الله، ونشرت ضمن هذه السلسلة التثقيفية التوعوية شهر سبتمبر سنة 1958م. بيد أن المؤلف فيما يبدو آثر التوسع في فصولها حيث أضاف إليها الكثير من الأبواب، حتى أصبحت كتاباً كبيراً ضافياً وبحثاً موسعاً في مجالات وأُطر الوحدة الإسلامية الواسعة المتنوعة.
طَرَق الشيخ محمد أبو زهرة وعالج الكثير من القضايا التي تُعدّ من السبل المؤدية إلى تفعيل وحدة الأمة الإسلامية في الواقع الماثل، وذكّر رحمه الله بالأسس التي ارتكزتْ عليها هذه الوحدة في العهد النبوي وخلال عهود الخلافة الراشدة وبعض مراحل ومنعطفات التاريخ الإسلامي. وتحدّث عن الوحدة الإسلامية في المجال الثقافي والفكري، وعن الوحدة الاقتصادية والعسكرية، والوحدة في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، كما قدّم العديد من المقترحات التي من شأنها تذليل العقبات والتغلب على التحديات التي تحول دون عودة الوحدة بين المسلمين على الأسس الأصيلة نفسها التي انطلقت منها خلال العهود الإسلامية الأولى المشهود لها بالخيرية.
لا شكّ أن أبا زهرة في كتابه هذا تجاوز عتبة بث الحماس السياسي في النفوس في سبيل العودة إلى وحدة الأمة المسلمة، وهي المسألة أو القضية الجوهرية التي غلبت على فصول كتاب “العروة الوثقى” للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
كما تجاوز أيضا القضايا التي غلبت على كتاب الشيخ محمد رشيد رضا، لاسيما مسألة الخلاف بين المذاهب الإسلامية، وأهميّة الاجتهاد في هذا المجال بواسطة السعي إلى تقريب وجهات النظر، وتحرير مواطن الخلاف وفق منهج علمي مؤسس على آلية الاستثمار في هذا الحقل في سبيل تحقيق أرضية سليمة للوفاق والانسجام، وذلك بإدراك مشروعية تباين المفاهيم والآراء التابعة لتعدّد طرق الاستنباط.
فقد نجح أبو زهرة في تجاوز هذه المسائل ذات الصبغة الفقهية والأصولية، التي استغرقت معظم فصول كتاب محمد رشيد رضا آنف الذكر، حتى جعلت منه كتاباً فقهياً أكثر منه كتاباً فكرياً مبسوطاً لمعالجة قضايا الوحدة الإسلامية. كما أنه تجاوز أيضاً الأدبيات الأخلاقية لوحدة الأمة، التي تُعدّ من أبجديات الثوابت الدينية في المعرفة الإسلامية، مثل مسألة الأُخوة والتضامن في الإسلام، وهي أيضا مسألة حظيت باهتمام ظاهر في كتاب محمد رشيد رضا، إلى درجة أنه عمد إلى إبرازها في عنوان كتابه “الوحدة الإسلامية والأخوّة الدينية”.
* كتاب محمد أبو زهرة هو الكتاب التأسيسي:
وبناءً على هذا التحليل الوصفي والمقارن فإننا نَعُدُّ كتاب “الوحدة الإسلامية” للإمام محمد أبي زهرة رحمه الله، هو الكتاب التأسيسي المنهجي في العطاء الفكري للخطاب الإسلامي المعاصر في معالجة ومقاربة قضايا الوحدة الإسلامية، خاصة فيما قدّمه من مقترحات ورؤى في التقارب والتعاون والوحدة في مجالات مختلفة متنوعة، كالمجال الثقافي والتربوي والسياسي والاقتصادي .. إلخ.
ولعلّ ما يؤكد وجهة نظرنا هذه أن هذا الكتاب مَهَّد الطريق أمام الفكر الوحدوي الإسلامي، بعد أن كاد الفكر القومي العربي يستأثر بقضايا الوحدة والتقارب، حيث أخذت المؤلفات الإسلامية النوعية تظهر تباعا، فصدر كتاب المفكر مالك بن نبي “فكرة كومنولث إسلامي”، وكتاب الشيخ حسن حبنكة الميداني “الأمة الربانية الواحدة” وكتاب الشيخ محمد الغزالي” دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين”، وكتاب الدكتور عبد المجيد النجار “دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين” وكتاب الدكتور إسماعيل شلبي “وحدة الأمة الإسلامية واجب شرعي يجب تحقيقه في ظل العولمة”، وكتاب الباحثين: عمر يوسف حمزة وأحمد عبد الرحيم السايح” معالم الوحدة في طريق الوحدة الإسلامية”، وكتاب الشيخ محمد عبد العليم العدوي” الوحدة الإسلامية أمام التحديات المعاصرة” وكتاب الشيخ محمد المجذوب “الطريق السوي إلى وحدة المسلمين” وكتاب الدكتور محمد عمارة “الجامعة الإسلامية والفكرة القومية”، وكتاب الدكتور محمد حمدي زقزوق “الوحدة الإسلامية ما لها وما عليها”.. وما إلى ذلك من مؤلفات وبحوث ودراسات نوعية ذات عمق، أثْرتْ إلى حدّ معتبر المدوّنة الإسلامية المعاصرة في قضايا ومسائل الوحدة بين المسلمين. وبيّنت مدى ضرورة الوحدة والتعاون والتكامل بين أقطار العالم الإسلامي، لا سيما خلال هذه المرحلة الحساسة من التاريخ، التي أخذت فيها الكيانات القوية تندمج وتتقارب وتتوحّد على كافة الأصعدة، لأن التشرذم والتباعد والتحاسد ليس سبيلا لحماية المصالح وتحصين الأمم وإسعاد الأفراد والمجتمعات.
والله وليّ التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: هذا المقال نُشر للكاتب بمجلة الوعي الإسلامي عدد شهر ذي القعدة 1438 هـ، أغسطس 2017م.