الاستلاب اللغوي والثقافي وأثره على الأجيال المسلمة التوقيع – الإمضاء- أنموذجا/ أ. د. أحمد محمود عيساوي
منذ ما يزيد على ثلاثة عقود وأنا أرقب عن كثبٍ طلبتي الجامعيين خصوصا وسائر طلبة كلية العلوم الإسلامية بجامعة باتنة بجبال الأوراس في فترة الامتحانات مثلي مثل بقية الأساتذة وهم يقومون بنشاطاتهم التربوية المعتادة في فترة التقييمات التربوية(الامتحانات) نهاية كل سداسي وعام دراسي جامعي. وكما تقضي القوانين الداخلية الجامعية أن كل طالب يريد مغادرة حجرة الامتحان وتسليم ورقة الإجابة للجنة المراقبة عليه أن يقوم بتقديم بطاقة تعريفه الوطنية أو بطاقة الطالب وكتابة اسمه ووَتْرِهِ بمهر توقيعه (إمضاءه) على وثيقة التسليم والاستلام الإدارية، لتثبت صحة انتساب هذه الورقة إليه، وهذا نشاط تربوي اعتيادي لا شيء يعنيه أكثر مما يعنيه إداريا، إن لم تعتره وتكتنفه دقة لمْحٍ، وعميق توسم، وجميل استبصارٍ، ولطيف ملاحظة، وتصاحبه أيضا فرضيات وتساؤلات واستيضاحات واستشعارات منهجية غزيرة ومتشعبة لرصد بعض تفاصيله الثقافية والحضارية واللغوية الدقيقة، التي طالما غابت عن الكثير من المشتغلين في هذا الحقل التكويني الحساس لاعتبارات عديدة وكثيرة جديرة بالبحث والنظر، كأنْ مّروا عليها مرور الكرام العابرين، أو غفلوا عن توجيه الأعين والأفئدة لملاحظاتها، أو لاعتبارات المكونات والتأطير والتكوين والخلفية التربوية والأخلاقية والدينية واللغوية والثقافية أو لغيرها من الاعتبارات.. وليس هذا هو المهم، بل المهم في المسألة كلها أن عملية استلاب لغوية خفية وخطيرة تُمرَّرُ عبر وبرضى وتقرير الجميع، والكل ينظر إليها مستأنسا سادرا في تبعيته واستلابه دونما تفطن لتداعياتها الآنية والمستقبلية الموروثة عن عصر التخلف وسقوط دولة الموحدين في الغرب الإسلامي سنة 638هـ 1236م، وسقوط الخلافة العباسية ببغداد على يد المغول سنة 656هـ 1258م.
ومن خلال المتابعة الاعتيادية للعملية خلال ثلاثة عقود مدرسية تبين أنها ليست عملية آلية، بل هي ظاهرة تشمل آلاف الطلاب عبر عقود زمنية، أي أنها تمس جيلا بله أجيالا بعينها من الأمة المسلمة، وقد تمت عملية رصد مكونات الحادثة وتحولها إلى ظاهرة اجتماعية وتربوية وثقافية ولغوية من خلال استجماع ولملمة كل عناصر المشهد للظاهرة، حيث يتقدم نحوك الطالب أو الطالبة في كلية الشريعة (الدراسة عندنا مختلطة) وهو يرسل لحية طويلة وكثة، ويرجّل جمة شعره المزيتة، ويضع إثمدا باديا في عينيه، ويظهر لك عود الأراك من خلال فتحة جيب قميصه المشطور لنصف ساقيه، ويقدم لك الورقة وبطاقته وأنت مزكوم بشميم رائحة عطر (عبد السلام القرشي) الفاخر..ويكتب اسمه العربي الإسلامي المكنى بأحد الأنبياء أو الصحابة أو التابعين الكرام أو بإحدى الصفات والنعوت الدينية أو العربية كـ (إسلام أو أيمن أو أكرم، أو إيمان، أو إخلاص، أو تقوى أو دعاء..)، كما تتقدم الطالبات وهن يستعرضن كل أنواع الحجابات الإسلامية (الخليجية، الإيرانية، التركية..)، ثم يضع أو تضع بجانب اسمه أو اسمها توقيعا باللغة اللاتينية وبالحروف الفرنسية (الرجاء التعطف والنظر في ملحق قائمة التوقيعات المرفقة).
ومع تكرار المشهد أمامك مئات المرات طيلة فترة الامتحانات الممتدة طيلة خمسة عشر يوما، تُصاب –كنت كحارس فيك بقية رمق إسلامي أصيل- بالذهول والصدمات وأنت تُسائل نفسك بحيرة قائلا: كيف اجتمعت بعض أمارات التدين الظاهري مع الحروف الأعجمية المُشكلة لشخصية وهوية الإنسان ممثلةً في التوقيع؟ أيُعقل أن تجد هذا التناقض في شكل عربي مسلم وباطن فرنسي أعجمي؟ وتُسائل نفسك أيضا أيُعقل أن تجد فرنسيا واحدا يوقع باللغة وبالحروف العربية؟ وغيرها من التساؤلات الهوية والإنية الصادقة والمعبرة عن روح وكنه وجودك الرسالي.
وقبل أن أترك الطالب أو الطالبة يفلت من يدي –وهي فرصة أهتبلها منذ زمن للتقرب من هذه الفئة المنعزلة عن الطلبة والأساتذة أيضا- أبادره بالسؤال قائلا:(ماذا صنعت؟) فيقول لي بغلظة وجفاء واستكبار:(لم أصنع شيئا، ولا حاجة لمزاحك الآن)، فأحتمل غلظته تلك وأبتلعها على مضض، بل أزيد فأرفع وتيرة ونبرة الحوار فأقول له:(ما هي الجريمة التي ارتكبتها في حق نفسك ولغتك وثقافتك وحضارتك وأمتك؟)، فيبادرني متجهما بوجه عبوس قمطرير..بأنه:(شاب متدين ومؤمن وسلفي العقيدة والمنهج.. وغيرها من الصور الفكرية الجاهزة لديه مسبقا ليواجه بها أمثالي)، وهنا ألين معه في الخطاب قائلا له وناسبا إياه لنفسي:(يا بني لماذا وقعت بالحروف الأعجمية وأنت شاب متدين كما تدعي؟)، ثم لا أترك له الفرصة ليرد ولأَقول له أيضا مع علمي برده الجاف، (وما هو دليلك الشرعي في دعواك؟) :(كيف كان توقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)، و(ماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمات ورموز عندما احتاج إلى مهر كتبه إلى الملوك والأمراء؟)، وساعتها يستفيق من غفوته الحضارية وسباته الثقافي ووسنه اللغوي، وتنزاح عنه غمامة الاستعلاء والاستكبار والتمايز عن الآخرين الذي راض نفسه عليه سنين من عمره، ليخضع لي بالقول طالما أن الدليل قد حضر مسبقا في سيول التساؤلات، المتضمنة للجواب، وهو يعرف بداءةً ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقشه في خاتمه الشريف عليه الصلاة والسلام، الذي سقط في البئر من يد الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته. والذي دنسه الكثير من أدعياء الإسلام في زمان الرويبضات هذا…
وبعد وصف تفاصيل مشهد من مشاهد هذه الظاهرة المؤلمة التي تشهدها مدرجات وحجرات كلية العلوم الإسلامية بله سائر كليات العلوم الإسلامية الجزائرية والقطر الجزائري كله، الذي ازدرد أجيالا جزائرية بكاملها، وجعل حلمها ومنتهى مناها وأملها الهجرة نحو أوربا عموما وأوروبا ذات اللسان الفرنسي خصوصا، نود أن نأتي على أهمية وخطورة عملية الاستلاب التي نعاني منها نحن شعوب المغرب العربي عموما ولاسيما نحن الجزائريين الذين تعرضنا لبشاعة وقهر وجبروت أساطين وقساوسة الاستعمار الفرنسي القاهر، الذي حرمنا ديننا ولغتنا وعربيتنا وعاداتنا وتقاليدنا العربية والإسلامية الأصيلة، واستمرت فيروساته الاستعمارية الخبيثة تفعل فعلها فينا إلى حد كتابة هذه السطور..
أود أن أشير هنا إلى أهمية التوقيع (الإمضاء) لا كرمزية قانونية وإدارية ومعاملاتية ومؤسسية قانونية أو مالية، بل كرمزية هُويةٍ تختزل شخصية الإنسان وتبلور هُويته وكينونته الثقافية واللغوية والحضارية..فالتوقيع هو رمز سري خفي لا يتقنه ولا يعرفه إلاّ صاحبه، ولا قيمة لأية معاملة أو أي إجراء إن لم يحمل توقيع صاحبه المعترف به لدى الجهات الرسمية وغير الرسمية.
فالتوقيع اختصار واختزال للأنا والإنية والذاتية والفردية والشخصية، وعادة ما ينشأ الأطفال وهم يحلمون ويتطلعون للمستقبل الزاهر وهم يشاهدون آباءهم وأمهاتهم وأقربائهم ومن حولهم يجرون المعاملات المتنوعة ويضعون توقيعاتهم الخاصة عليها لتمرر وتأخذ طابع الرسمية والجدية. وتراهم يعكفون على دفاترهم القديمة يملؤون صفحاتها المتبقية بتقليد توقيعات آبائهم أو ذويهم، حتى يستقروا في الكبر على توقيع بعينه.
وبمجرد أن يتقدم الطفل لاجتياز شهادة التعليم الابتدائي يُطلب منه استخراج بطاقة التلميذ ويوم استلامها يقول له مدير المدرسة هيا وقع عليها لاستلامها، فيكتب اسمه أو حرفا أو حرفين من اسمه أو من لقبه ويتبعه بخط أو بخطوط ويسمي ذلك توقيعا، حتى يصل إلى مراحل متأخرة ويُطلب منه استخراج جواز السفر وبطاقة الهوية الوطنية، وساعته يحق الحق ويجد الجد، ويوقع توقيعه الذي سيستمر معه لعشر سنين، وساعتها يصبح توقيعه لصيقا به، فإن اختار إنيته وأصالته، ووجد العناية والتوجيه الكافي من جماعته الأولية في البيت والمدرسة والأصدقاء والمسجد والنادي الثقافي.. فقد طبع نفسه بهويته الحقيقية، وإن وجد أباه فرنسيا في حديثه وحواره ومخاطبته وتوقيعه.. كحال الكثيرين منا نحن الجزائريين هان عليه أمر هويته وأصالته ووقع بلغة فولتير وختم بلغة موليير أيضا دونما رادع أو رقيب.
وفي هذا الصدد تذكر الأديبة الكاتبة (سعاد قوادري) زوجة الراحل الكاتب والمترجم والأديب والروائي والسياسي السعودي (عبد الرحمن منيف) أن زوجها لما ألف روايته الأولى باللغة الفرنسية، حصلت له واقعة مذهلة في الحي الذي يسكنه في إحدى الضواحي الباريسية، فقد نظّم سكان الحي حفلا متميزا دعوا إليه الجاليات العربية والإسلامية في مظهر احتفالي متميز، وطلبوا منه أن يفتتح حفلهم ويقص الشريط لبيع روايته بالإهداء، وقالوا له -لما رأوه مذهولا من احتفائهم وصنيعهم- العبارة التالية:(لقد صرت فرنسيا مثلنا)، فقال: كيف؟ قالوا:(لقد صرت تفكر وتحس وتحب وتكره وتتألم وتدعو وترفض وتتنفس باللغة الفرنسية، فأنت فرنسي مثلنا)، فعلم يومها رحمه الله –كما تروي زوجته- كم تعني الكتابة والقراءة بلغة الغير.
ولعلني أختم هذا الألم بما حدث لي أنا شخصيا في دراستي الابتدائية على يد المعلمين اليهود والفرنسيين (شاؤول، لوروو، جيري، روا، فرنسوا وفرنسواز..) الذين درسوني اللغة الفرنسية سنوات 1962-1970م طيلة أيام الأسبوع عدا ساعتين أسبوعيا للغة العربية والتربية الإسلامية فقط وفي نهاية الأسبوع، أصير (أحمد) بشخصيتين، إحداهما فرنسية خالصة انتزعوها مني بسياسة اللين والتحبيب للغة الفرنسية التي هي لغة الحضارة والعلم، وصرت أكتب وأتكلم الفرنسية بطلاقة، وكأنها لغتي.. ونافسوا شخصية (أحمد) العربية الإسلامية الجزائرية التي كانت تتغذى العربية والإسلام والقيم والعادات الجزائرية من معلم اللغة العربية والتربية الإسلامية ومن إمام المسجد ومن الأم والأب والجد والجدة الأميين، الذين ربونا بالأمثال الشعبية الجزائرية التي هي حكم وأمثال وقواعد تربوية واجتماعية ودينية. ولولا حبل من الله وحبل من إخواننا العرب الذين هبوا لتعليمنا سنين الاستقلال لبقينا فرنسيين.
وألمنا مازال لم ينته بعد إلى اليوم، فتعد اللغة الفرنسية إحدى المواد الأساسية في التعليم الابتدائي حيث يبدأ تدريسها من السنة الثانية ابتدائي والطفل مازال لم يكتمل بنيانه بعد، فنضطر لتعليم أبنائنا اللغة الفرنسية، ليتقنوها جيدا وينجحوا في الامتحان، وقد صار أبنائي الثلاثة فرنسيين بيدي هاتين، لأنني أحب أن ينجحوا ويواصلوا دراستهم الجامعية في كلية اللغة الفرنسية ونجحوا بامتياز فيها، ولولا الله ورسوله وعلماء الإسلام واللغة لما كنا هكذا..
وأختم هذا الألم، ببوح شخصي، فأنا أبكي كل يوم وأُفضي إلى زوجتي قائلا:(نحن نربي ثلاثة أبناء فرنسيين بأيدينا، كما نربي ثلاثة أبناء جزائريين عربا مسلمين)، إنها إحدى معجزات موريسكيي جزائر القرن الواحد والعشرين، فمتى تنزاح عنا هذه الغمامة، ونصفو للإسلام ولحضارة الإسلام؟