قراءة في إفرازات الحراك والانتخابات/ عبد العزيز كحيل
– في 1999 كنت في حملة د. أحمد طالب وعشية الانتخابات انسحب هو وباقي المترشحين وتركوا بوتفليقة وحده بسبب أخبار عن التزوير، وظننا أن الانتخابات ستلغى أو أنه سيستقيل، ففاز وبقي جاثما على الجزائر 20 عاما بشرعيته المنقوصة، وقد علمنا آنذاك أن المخابرات هي التي أشاعت أن الانتخابات ستزور حتى ينسحب المرشحون ويخلو الجو لبوتفليقة، وهو ما كان، وخشيت أن يحدث نفس الشيء في 2019 ويبدو أنه قد حدث، وما زلت مقتنعا أنه كان على الحراك أن يقدم مرشحا بدل الاستمرار في الرفض، وها هو تبون رئيس وسيسيّر الدولة، وقد بدأ بعضهم التزلف له، فكم أتمنى أن تكون قوى التغيير على درجة من الوعي تجعلها تحسن التقدير والتعامل بواقعية حتى لا تفسح المجال لعودة العصابة والدولة العميقة.
– ومن محاسن هذه الانتخابات أنها أعطت الضربة القاضية للأفلان والأرندي، وفتحت بذلك المجال لإخراجهما نهائيا من الحياة السياسية -ومعهما المركزية النقابية- لأن هذه هي مصانع الفساد والمفسدين، وستندثر أحزاب أخرى منقطعة عن الواقع، وإن كانت تحكي انتفاخا صولة الأسد، فلابد من بروز تنظيمات سياسية ومدنية جديدة تحمل روح الإصلاح والتغيير ويكون الشباب المثقف الواعي حاضرا فيها بقوة، تطرح برامج واضحة طموحة من ناحية الهوية وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، هذا هو واجب الوقت، فماذا تنفع الاحتجاجات وحدها ونحن في مرحلة التموقع المفصلي الذي تحسن أطراف الفرنكوبربريست إدارته لصالحها أي لصالح المشروع الفرنسي-العلماني؟ يجب أن نترك
الانفعال وُنعمل العقول.
– هل كان الحراك عفويا أو مدبّرا؟ لا أملك من المعطيات ما يمكّنني من الإجابة، المهم أنه أزال القبضة الحديدية التي كانت مسلطة على الشعب منذ التسعينيات وأدى إلى ذهاب بوتفليقة واعتقال رؤوس الفساد، لكن بقي المشكل السياسي كما هو، وأظن أن الحراك قد تم احتواؤه بعد أسبوعه الخامس، ومنذ ذلك الحين تولى الجيش تطبيق خطةلم يحِدْ عنها أبدا، فلم يستجب لأي من مطالب الحراك والشخصيات الوطنية والأحزاب، عجز الحراك عن إزاحة بن صالح وبدوي وعرقلة عمل لجنة كريم يونس وسلطة محمد شرفي، في المقابل تحلت قيادة الجيش بدرجة رفيعة من الوطنية والحكمةلم نشهدها في الدول العربية المعتادة على القمع، ولذلك أعتقد أن أكبر مكاسب الحراك هو استرجاع الجيش من قبضة الاستئصاليين لأول مرة منذ الاستقلال .
– بحكم تكويني أمقت أشد المقت تدخل الجيش في السياسة بأي شكل، لكن الجيش الجزائري صنع الاستثناء هذه السنة، ففي الوقت الذي كان يسقط فيه مئات المتظاهرين تحت الرصاص في مصر والسودان والعراق وغينيا كانت المسيرات عندنا آمنة تماما كما تعهد قائد الجيش، هذا القائد –مهما كان رأينا في مساره- الذي صبر صبر أيوب على السب والشتم والتخوين والتجريح الذي ناله من بعض المتظاهرين والأطراف السياسية إلا أنه تمسك بحِلمه وبرودة أعصابه وأقدم على اعتقال رؤوس لا يستطيع أي رئيس منتخب أن يقترب منها، في المقابل ارتكب أخطاء مجانية مثل الابقاء على بدوي وتعيين كريم يونس وشرفي، وكذلك تدخله السافر في تحديد موعد الانتخابات بدل أن يترك الإعلان لرئيس الدولة، لو تجنب هذا لالتفّ حوله كل الجزائريين باستثناء تلك القلة المعروفة.
-كما كان منتظرا أفرزت الانتخابات رئيسا سيتعامل معه الجميع ولن تُزيحه المظاهرات والمسيرات، وماذا تفعل الشرعية الشوارعية أمام الشرعية الانتخابية؟كم تمنيتُ أن يكون رئيسا أفرزه الحراك، مهما يكن فقد فتحت الرئاسيات عهد النضال الحقيقي على أنقاض الأحزاب البالية، ولابد أن يدرك الشباب الفرق الشاسع بين عالم فيسبوك وعالم الواقع لينخرطوا في أُطر سياسية وجمعوية جديدة فاعلة لخدمة بلادهم، نعم: التغريدات والصور الملونة وفوتوشوب أمور جميلة لكن الأجمل هو خوض غمار الواقع بتعقيداته وعدم تكرار أخطاء النخبة التي خيّبت آمال الشعب حين أصبحت مقودة بدل أن تكون قائدة، غرقت في القراءات السطحية والنظرة السوداوية ولعبة الارجوحة.
-رغم تحفظاتي على الظروف التي فرضت علينا فيها الانتخابات فقد جرت ولم يحدث أي تزوير بشهادة كل منصف وبنفس النسبة المعتادة تقريبا ولم أندم أني انتخبت، الآن تبون رئيس رغم كل شيء أما خطابُه يوم أدائه اليمين الدستورية فخطاب مناسباتي عادي جدا، فيه وعود يطلقها أي رئيس منتخب، أعجبني منحاه العربي الإسلامي الوطني مع أني لا أنسى أن الرجل من صلب النظام القائم، أتمنى أن ينجز شيئا من وعوده، وقد لاحظتُ أن الميدان الوحيد الذي لم يتطرق إليه في خطابه هو قطاع الشؤون الدينية والأئمة، أعتقد أن بداية التغيير هي التشريعيات والمحليات القادمة، وكم نحن في حاجة إلى إطلاق الأفكار الحيّة المنعشة بدل الاكتفاء بإطلاق الهتافات، خاصة من طرف النخبة التي ينبغي أن تصدع بالحق لا أن تغازل أي طرف، سيفرض العمل المؤسسي نفسه فيا ليت الشباب لا يفوتون الفرصة.
– عن بلاد القبائل: ألم يحن الوقت لنكون صرحاء؟ سئمنا أسطوانة “أقلية قليلة لا تمثل إلا نفسها، والقبائل الأحرار أبرياء منها”… المنطقة كلها تحت سلطة الماك والأحزاب العنصرية، السكان رهائن تُسيّرهم أقلية الفرنكوبربريست بالقوة كما رأى جميعا، والمشكلة لا تحلها المزايدة بحكاية “لديهم وعي زائد”.. المنطقة في طريقها إلى الانفصال الفعلي..كل الناس يعرفون هذا لكن لا يصرحون به مخافة الاتهام بالعنصرية…هم يعملون علنا على الصدام والانفصال، ونحن يُراد لنا أن نصفق لهم ولراية بينيت الدخيلة؟ ما هذه الرُّجلة علينا؟ يجب أن يأتي الحل من داخل المنطقة على يد الأصلاء الذين احتضنوا الإسلام والعربية وحرب التحرير، هم الأغلبية وهم الذين يجب أن يتحركوا لا أن يستسلموا، مع الأسف هم ساكتون والأقلية تستغل سكوتهم وتمضي في مخططها، والرئاسيات أكدت للمرة الألف هذه الحقيقة المؤلمة.
- موقفي من قايد صالح ليس عاطفة يحركها موتُه المفاجئ بل هو موقف عقلاني بصير، فقد تفرّد من بين جنرالات العرب بحماية الشعب بدل تقتيله، تعهد ووفّى، وكأن الله ختم له بالحسنى حتى لا يشكّل وجوده مشكلة للرئيس الجديد وللجزائر، وكم آلمني هذا التشفي من الفرنكوبربريست وأتباعهم، لكن لعل في ذلك خيرا، فضحهم الله حتى يزول الانخداع بهم نهائيا، هم لا يكرهون الرجل لأنه أفسدها بل لأنه أزال عنها الفساد والمفسدين وصرّح أن الجزائر تحررت نهائيا من حكم الأقلية، انتصر للراية الوطنية وخطب بالعربية وأعاد الاعتبار لنوفمبر بينما هم يحبون الفرشيطة والفرنسية والصومام، قد نختلف معه لكن هل هناك مقارنة بينه وبين توفيق والعماري ونزار ؟
تغمده الله برحمته الواسعة وجزاه عن الجزائر خيرا وغفر لنا وله…وبيننا وبين الشامتين جنازتُه.