ويسألونك عن التقدم… قل هو الأخلاق/ محمد الصالح الصديق
تختلف مظاهر التقدم والتمدن وتتعددن، وانطلاقا من هذا فهناك من يرى التقدم في التفنن في المأكل والمشرب، وهناك من يراه في تأثيث المنزل بأحدث الأثاث وأجمله، وهناك من يراه في آداب المعاشرة، وأساليب المجاملة، وهناك من يراه في اتساع المتاجر، والإكثار من المصانع، والمزارع، وهناك من يراه في إلغاء المسافات والأبعاد، والسيطرة على قوى الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، وهناك من يرى أن التقدم يقوم بالعلم والأدب والشعر، وهناك من يخيل إليه أن التقدم غنما يثبت على القوة، والجبروت، والسيطرة والاستبداد…
ولكن كيفما اختلفت المظاهر وتعددت النظريات، فالتقدم الذي أحرزه الإنسان وقلب به وجه الطبيعة شيء رائع مدهش في نظر الناس عامة… ولكن يجب أن نتساءل كما تساءل غيرنا: هل السيارة والقطار، والطائرة، والصاروخ، والتلفزيون، والثلاجة الكهربائية، والعقل الالكتروني، وغيرها من المخترعات العجيبة التي يكاشفنا بها العلم الحديث من حين لآخر هي مقياس التقدم والسير إلى الأمام، أم أن الإنسان هو المقياس؟
إن الإنسان هو الذي يجب أن يتخذ مقياس للتقدم والتمدن في هذه الحياة، والإنسان في نظرنا لم يتقدم، ولم يتمدن، إذا وضع في كفة الميزان، ووضع تقدم الآلة أو العلم في كفة أخرى…
إن الإنسان ما يزال متوحشا، رغم أنه هو الذي صنع النفاثة والصاروخ وعابرات المحيطات – لم يتمدن بعد، هل ارتقت مشاعر البشرية بهذه المخترعات وهذا التقدم العجيب المدهش؟ وهل توثقت بها عري المودة والإخاء بين الناس؟ وهل ساد الأمن والطمأنينة تلك البلاد المتقدمة الراقية؟ وهل اختفى الظلم والاستبداد، والأثرة، وزالت الطبقية والاستعمار؟ وهل خففت الحضارة والتقدم من هول الحروب وفضاعتها، فجعلت المقاتل إنسانا مع عدوه لا وحشا ضاريا مسعورا؟!
اللهم إلا إذا انعكست القضايا الطبيعية، فصارت الإبادة والجماعية، والتمييز العنصري، والانحلال الخلقي، وتفسخ الأسرة والمجتمع، والميوعة، والتخنث، والمهاشرات في الشوارع تمدنا وحضارة… إذا كان كذلك فلنسم التهور شجاعة، والإسراف كرما، والبخل اقتصادا، والاستكانة والذل صبرا، والقبح جمالان والهبوط صعودا، والخطأ صوابا، وهذا ما يقول به العقل…
لا ننكر أن الحضارة وهذا التقدم أكثر، إلى حد أنه قد يطغى على تلك النعم فتختفي بجانبه… ولم تقدم العلماء، وطلاب العلم والمعرفة، روحيا، وأخلاقيا عشر ما تقدموا علميا وصناعيا لكان تقدمهم –حقا- سعادة للبشرية…
إن ما بلغه الإنسان العلمي من التقدم المادي قد عاد عليه بالوبال والشقاء، حيث لم يرافقه تقدم أخلاقي وروحي.