فلسفة ما بعد الموت/ أ. د. عبد الرزاق قسوم
تصور معي – يا قارئي المسلم- لحظة وضع الإنسان في قبره، حيث الوحشة والظلمة، وساعة رد التراب عليه، فينفض من حوله الأهل والأحباب والمشيّعون والأصحاب، والأقارب والأغراب، فيبدأ حينئذ الامتحان، والاستجواب.
إنها لحظة ما بعد الموت، تلك التجربة الفردية، والمعاناة الذاتية، التي عجز العلم –حتى الآن- عن تقديم جواب دقيق عن حقيقة كنهها، ذلك أن الموت يبقى حقيقة الإنسانية الوحيدة، التي لا نستطيع معاناتها إلا من خلال الآخرين.
فلا أحد يستطيع مهما أوتي من قوة عقل، أو كثرة علم، أن يجيب عن سؤال: ما هو الموت؟ هذا الذي وصفه الإسلام بالمصيبة التي﴿تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾[سورة الأنبياء، الآية 40]، و﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾[سورة النساء، الآية 78].
ويستوي في معاناة لغز الموت المستكبرون والمستضعفون، والبسطاء والكبراء، فهم جميعا، يسقون من نفس الكأس، ويتجرعون نفس مرارة البأس واليأس.
ويبقى السؤال الآخر المحيّر، وماذا بعد الموت؟ ماذا بعد الموت للميت، الذي سينكشف له عالم آخر، بعد أن يزول عنه الغطاء؟ ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[سورة ق، الآية 22].
وماذا بعد الموت للحي، الذي يشيّع ميته فيترك له الحسرة والأسى، والدمعة في الصبح والمساء؟ إنه السر الكبير، الذي يواجهه كل إنسان، في ابتلائه بمصيبة الموت.
أما العاقل، فهو الذي يستخلص منه العظات والعبر، و”كفى بالموت واعظا“.
وأما غير العاقل، فهو الذي يمر على التجربة معرضا عنها ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[سورة يوسف، الآية 105].
فإذا كانت هذه هي حقيقة الموت بالنسبة للأفراد، فما هي حقيقة الموت بالنسبة للشعوب؟
إن الحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن الميت لا يصحبه من دنياه، إلا ما قدمت يداه من عمل صالح، وكلف بتقييم ذلك ملائكة عدول ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[سورة التحريم، الآية 6].
أما تقييم تجربة الموت في الشعوب، فهي موكولة –مؤقتا- إلى بني البشر من المؤرخين، والإعلاميين، والسياسيين، وتقييمهم ذاتي لا يخلو من العاطفة، وهو ممزوج بمشاعر المصلحة، وهنا يتدخل العنصر الجماهيري الشعبي من المشيّعين، فهو إما أن يكون تلقائيا ينساق بدافع من الحب والوفاء، وإما أن يكون إجباريا يُساق بدافع التجنيد والإيحاء.
ولقد عشنا في تجاربنا الوطنية الخاصة، نماذج وأمثلة من تشييع الموتى، ورأينا كيف أن البعض من هذه النماذج خضع للتجنيد والتقييد، والبعض الآخر نبع من التمجيد والترشيد.
وآخر التجارب التي عاشتها الجزائر تجربة موت قائد الأركان، التي قلبت كل المعادلات، وأبطلت كل الموازنات.
فمن هذه المعادلات: ما موقع الحراك الشعبي من هذه المليونية التأبينية الجماهيرية؟
وما حقيقة ومكانة هذه المليونية الشعبية من الحراك الشعبي؟
فلا أحد يستطيع أن يقدم إجابة مقنعة عن علاقة هذه بتلك، وأين كانت هذه الجماهير الشعبية الحزينة، التي خرجت لتأبين وتشييع الفقيد يوم كانت جماهير الحراك تجوب الشوارع غاضبة مزدحرة؟
إن الأعمال بالخواتم –كما يقال- ونعتقد أنه يمكن اصطناع الفرح، ولكن لا يمكن أبدا اصطناع الحزن، وما شدنا في هذه الجماهير المليونية الحزينة هو قوة التأثر، وشدة الخشوع، وغزارة الدموع… وهي مظاهر لا يمكن حصولها إلا إذا كانت نابعة من شعور دفين ومكين، ولعل هذا ما شهد به المخالف والمؤالف.
بدافع من هذه المعاني التي يقدمها الموت في مفهومه الإسلامي، نحن مدعوون إلى أن نتأدب بأدب الإسلام في التعاطي مع الميت، فقد أدبنا الحديث النبوي حين أوصانا بقوله: ” أذكروا محاسن موتاكم“، وعندما رأى أناساً يثنون على ميت ما، فقال عليه الصلاة والسلام “وجبت!”.
وإن من دلالات العناية الإلهية، ورعايتها للجزائر، أنها قدرت كل شيء بمقدار، فلو أن القائد العسكري الفقيد الذي طالما وصف بأنه الحكم الحقيقي للجزائر، لو أن هذا القائد مات قبل الانتخابات، لاضطربت شؤون البلاد والعباد، ولو أن الموت وقع قبل تنصيب الرئيس، لحدث هرج ومرج، ولكن الله ادخر هذا الموت إلى الانتهاء من كل مهام الانتخابات والتنصيب، وإلى أن وضعت الجزائر –إن شاء الله- على السكة.
يمكن القول –إذن- بأن الله يـحب الجزائر، فهو يدافع عن الذين آمنوا، وبقي علينا نحن الجزائريين، حُكاما، وشعبا، أن نحمد الله على ما حبانا من النعم، فنقدر لكل نعمة حق قدرها، ولن يكون ذلك إلا بتحقيق ما يلي:
- الاحتكام إلى أحكام الله، في التعامل مع الحق العام، والمال العام، والتكوين العام.
- المحافظة على وحدة البلاد، والعباد، بتطبيق العدل، والابتعاد عن الظلم، والفساد، والاستبداد.
- حماية استقلال الوطن، وصيانة سيادته، وإثبات وجوده، على الصعيد الإقليمي، والعالمي.
- العناية ببناء المواطن الجزائري على أسس سليمة، وتمكينه من الحصول على حقه من كل ما ينعم به الوطن من النعم، حتى لا يبقى في وطننا، سائل أو محروم.
إن أعظم لفتة وفاء نقدمها لمن نعتقد أنهم خدموا الوطن بإخلاص وإباء، هو الإعلاء من قيم العلماء، والشهداء والمصلحين والصلحاء، فذلك أحسن أداء نؤديه في سبيل إشاعة المحبة والإخاء.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[سورة محمد، الآية 7].