من دقائق الصناعة الحديثية(1)/ محمد عبد النبي
قال الإمام مسلم في صحيحه (4/2272): “حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز-يعني الدراوردي- عن العلاء عن أبيه -هو ابن عبد الرحمن- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر”.
وأخرجه من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة كلّ من الترمذي(4/140) و ابن ماجه(5/232) وأحمد(8/266) وابن حبان(2/462) و قال الترمذي عقب إخراجه: “وفي الباب عن عبد الله بن عمرو..” وقال عن حديث أبي هريرة:”هذا حديث حسن صحيح”.
فأما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخرجه أحمد في مسنده(11/442) والحاكم في مستدركه (18/253) وسكت الحاكم والذهبي عنه، وأخرجه عبد بن حميد في مسنده (137) والبغوي في شرح السنة(14/297) بلفظ: “الدنيا سجن المؤمن وسنَتُه، فإذا فارق الدنيا، فارق السجن والسنة.” من دون عبارة: “وجنة الكافر”.
وقد حكم على إسناد حديث عبد الله بن عمرو هذا المحدث أحمد شاكر بالصحة(المسند:6/338)، وأما الشيخ شعيب الأرناؤوط فحكم على الإسناد بالضعف، في تحقيقه للمسند(11/442) فيما حكم الشيخ الألباني عليه بالضعف أيضا في السلسلة الضعيفة (6/47).
وقد رُوي أيضا من حديث ابن عمر وسلمان من طرق أيضا ضعيفة، قال الهيثمي في المجمع عن طريق ابن عمر(10/289): “رواه البزار بسندين أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم” وقال عن طريق سلمان: “رواه الطبراني، وفيه سعيد بن محمد الوراق، وهو متروك، وكذلك رواه البزار”.
ويبدو أن الحديث مشهور من طريق أبي هريرة، ويكفي في صحته إخراج مسلم له، غير أن البخاري أعرض عنه ولم يخرجه في صحيحه، والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن الحديث ليس على شرطه -بالرغم مما يتضمّنه من معنى كبير في الرقائق– فلم يخرج البخاري للعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، قال ابن حجر في التقريب(763) عن العلاء: “صدوق، ربما وهم” وأخرج للدراوردي -تلميذ العلاء- مقرونا بغيره، كما قال الحافظ ابن حجر في التهذيب (6/354) وقال عنه في التقريب (/607): “صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر”.
جاء في علل الدارقطني (8/331): “وسئل عن حديث رُوي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، قال: اختُلِف فيه على شعبة: فرواه ابن أبي عدي والربيع بن يحيى الأشناني عن شعبة عن العلاء مرفوعا، ووقفه غندر ومعاذ وغيره، ورواه الحماني عن سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ووهم فيه، وإنما رواه سليمان ابن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، حدث به حفص بن ميسرة ومالك بن أنس وزهير بن محمد وغيرهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم”.
وجاء في العلل لابن أبي حاتم (5/196):” وسألت أبي عن حديث رواه سليمان بن حسان الشامي عن شريك عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، إنما مثل المؤمن إذا مات مثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فجعل يتقلب في الدنيا، ويتفسح فيه، قال أبي: النَّاس لا يرفعون هذا الحديث، والموقوف عندنا أشبه”.
والحاصل أن الحديث-برواية أبي هريرة و عبد الله بن عمرو- يتنازعه الرفع و الوقف، ورجّح مسلم -وغير- رواية الرفع فأخرجها في كتابه، ويبدو أن الصغاني (ت:650هـ) قد شذّ فأدرجه في موضوعاته (48) وعقّب عليه العجلوني في كشف الخفاء(1/470) بالقول: “وأما ما في الموضوعات للصغاني من أنه موضوع فلا يُعوّل عليه”.