قضايا و آراء

مشكلات التأويل وأثرها على الواقع الفكري والسياسي العربي/ خير الدين هني

 

منشأ التأويل بدأ سياسيا:

حينما تحدثت عن مفهوم التأويل في مباحث سابقة، كان الغرض من ذلك بيان الشروح الوافية التي ساقها العلماء في شأن الفرق بين دلالات التأويل اللغوية والاصطلاحية، وكذا المضمون المعنوي الذي يدل عليه معناه ضمن الأحكام التي تدل عليها سياقاته اللغوية وَفق ضوابط التأويل المعروفة في لغة العرب وآدابها.  وبذلك تتبين للدارس حقائق التأويل التي اعتمدها محترفو السياسة في كل العصور، ليتخذوا منه منطلقات فكرية وشرعية لتبرير أهدافهم السياسية أو المذهبية والعقدية.

والعلماء –جازاهم الله خيرا– محصوا لنا المفاهيم الدلالية  للتأويل، وبينوا صحيحه المبني على قواعد الأدلة اللغوية والشرعية من سقيمه أو فاسده الذي ينتقض مع صحيحه في الوجوه الدلالية، وهو الذي يستعمله المبتدعة وأصحاب الهوى ممن تنزع نفوسهم إلى تأويل النصوص بمخرجات تحقق لهم أهدافهم التي يرومونها، وإشباع رغباتهم وميولهم، فيستعملون المجاز والاستعارات وغريب الألفاظ للتلاعب بمعاني النصوص، فيخرجونها من معانيها المحتملة إلى معان غير محتملة تتوافق مع مقاصدهم، وقد أطلق العلماء على التأويل الفاسد تأويل التحريف والتعطيل والزيغ والهوى…

وهذا التأويل بمخرجاته الفاسدة، هو ما دفعني إلى تناول الأحداث الكبرى التي حفل بها تاريخ الأمة تناولا موضوعيا أتوخى به وجه الحق وحده، وأتحرى الصدق والأمانة في النقل والتحليل وإصدار الحكم على نواتجها، لإنصاف التاريخ الذي عبث به العابثون، محاولين التدليس عليه بالإخفاء أو التشكيك أو النفي لتبرير ما يريدون تبريره، مع أن تلك الأحداث كانت مريرة وهي التي صنعت وعي الأمة ووجدانها، لما جرى فيها من  تنافس شديد على الحكم ووجاهته، ثم انتهي إلى صراح وتصادم كبيرين أرهق الأمة وأدخلها في فتن شعواء، كان لها مبتدأ ولكن لم يكن لها منتهى تنتهي عند حدوده…

ويعتبر هذا الموضوع  قديما حديثا، وقد شغل الناس طويلا وخاضوا فيه بكل قول، بعلم وبغير علم وبنية خالصة مبتغية وجه الحق، أو بنية غير سليمة لا يراد بها إلا المنافع والمكاسب، وليس لي غاية من ذلك إلا الحق وحده، لأنني حر في اتجاهاتي الفكرية والسياسية والحزبية، ولست مقيدا بعقيدة سياسية أو فكرية أو مذهبية أو فلسفية… وأنا لست علويا أو عثمانيا، ولست هاشميا أو أمويا، ولا بغداديا أو دمشقيا… ولكنني مسلم مقيد بضوابط الشريعة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليس لأنني أريد أن أنكأ جراحا نسيها التاريخ ولم يعد يحفل بها البتة،  لأنها أحداث وقعت وانتهى زمنها وكان لها ما لها وعليها ما عليها، ولم تصبح وقائعها تفيدنا في كثير أو قليل، وإنما كانت غايتي من ذلك أن رأيت المواقع والمحافل العلمية للمشايخ والدعاة، تعج بإحياء الحديث عن أحداث أول فتنة وقعت بين المسلمين، وقد دأبوا على سرد وقائعها من غير بيان للخلفية الحقيقية التي كانت سببا في وقوعها.

 

نظروا إليها وكأنها أصبحت تمثل مشكلة حقيقية، انعكس أثرها على وعي الأمة وواقعها وكينونتها، وقد أخذت حيزا كبيرا من مشاغل الناس، لارتباط نواتجها بأحوالهم النفسية وطرق تفكيرهم، وما تلا ذلك من اختلاف كبير في تصورهم للواقع السياسي وما تكدس فيه من مشكلات، خلقت واقعا مريرا ازدحمت فيه الحوادث، وتراكمت نواتجها بالبؤس والشقاء من جراء قراءات تأويلية اصطدم بعضها ببعض، فكان بأس الأمة فيما بينهم شديدا، وليس هذا فحسب، وإنما ما شدني إليه شدا وهالني أمره، ما اعتاده أصحاب المدرسة التبريرية من تمويه على  الحق والحقيقة، وتحريف حقائقهما بزخرف القول على خلاف ما هو عليه واقع حالهما

وقد غمطوا الحقيقة من أجل توجيه أحداث الفتنة توجيها سياسيا محضا، يخدم رغبات مدرسة سياسة معينة، تتقاطع أهدافها السياسية والمذهبية مع المخرجات التأويلية التي يجتهد فيها مشايخ الاجتهاد الفقهي لصالح تلك المدرسة، ويكون الأمر كله مبنيا على الرغبة السياسية الجامحة، وليس على الحقيقة التاريخية الساطعة.

هذا ما أردت إماطة اللثام عنه، بقراءة منهجية موضوعية تتوخى الحق وحده من غير ميل عاطفي أو جنوح مذهبي، لأن التماس الحق والصدع به هو ما يشخص أحداث التاريخ تشخيصا حقيقيا، تظهر فيه الحقيقة على طبيعتها وليس كما يحب وقوعها الناس، ودراسة مخلفات أول فتنة وقعت بين المسلمين وما ترتب عليها من انعكاسات خطرة على واقعهم المفهومي والسياسي، إنما يكون بالنظر العميق في دراسة ما  نشأ عنها من مشكلات في تأويل النصوص، وتأثيرها الكبير على الواقع الفكري والسياسي على الوعي الفردي والجمعي عبر مراحل التاريخ، وما المشكلات السياسية المتفاقمة اليوم، بين طوائف المجتمعات العربية والإسلامية، وما نتج عنها من تصادم واقتتال، إلا بسبب مخلفات تلك الفتنة الناتجة عن الاختلاف في التأويل والفهوم.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com