مذكرات المجاهد والشاعر عبد القادر دلاوي/ محمد بسكر
التَّأريخ للفترة المعتمة
المذكرات الشخصية هي إحدى روافد المعرفة التاريخية البديلة عن العجز الوثائقي المكتوب، تمثل شهادة حيّة لوقائع وأحداث مرّ بها الكاتب، وهي مظنة الإغراق والمغالاة إن خلت من الصّدق، وفخ لإلباس النّفس ما لا تستحقه. والكتابة في تاريخ الثورة ليس مجالها التخمين أو الافتراض، وإنّما هي مجال للتحقيق والتثبت، يضبطُ مصداقيتها التّجرد من الذّاتية والبعد عن المناطقية، وقد جنح في الفترة الأخيرة بعض المجاهدين والمفكرين لكتابة ذكرياتهم وتجاربهم في العمل السّياسي والثوري، ومثلُ هذه الأعمال المنشورة تثري رصيدنا التاريخي وتقرب الحقائق لأهل البحث.
الحيثيات التي اشتملتها مذكرات الأستاذ “عبد القادر دلاوي” (ت2007م)، عناصرٌ أولية يحتاجها أي باحث في تاريخ الولاية السادسة، فهي تبين الطرق المعتمدة في التنظيم المدني الثوري، ودور الخلايا الثورية في منطقة بوسعادة- القلب النابض للولاية السادسة كما وصفها الرّائد عمر صخري – وهذا الحيز التاريخي لم تلتف إليه الدراسات الحديثة على الوجه المطلوب، فالعمل المدني الثوري يمثل القاعدة الشعبية التي ضمنت استمرارية العمل المسلح، فكان تنظيمه وتأطيره من أولويات الجيش الشعبي الوطني، وقد تفضل الأستاذ المؤرّخ ” ناصر لمجد” بالاعتناء بهذه المذكرات، وتكفلّت دار كردادة للنشر والتوزيع بنشرها سنة 2016م.
إنّ توثيق العمل المدني الثوري وبعض حوادث الولاية السادسة هو لبّ هذه المذكرات التي تعكس الشجاعة الأدبية التي تحلّى بها الكاتب، وما رقمه في هذه الأسطر يشكل مادة خام للباحثين في التاريخ الثوري وخاصة ما يتعلق بنشاط الشهيد “زيان عاشور”؛ لأنّ مؤلّفها يعتبر عضده ومساعده، فلم يكن راصدًا عن بُعد ينقل ما سمعه، أو يجتر ما يُحكى له، وإنّما هي أحداث عاينها وخالط أفرادها في المنطقة الممتدة من بوسعادة إلى الجلفة.
المجاهد المثقف:
الأستاذ عبد القادر دلاوي من مواليد بوسعادة في شهر ماي سنة 1933م، أديب وشاعر، تكوينه الثقافي مزيج من التعليم الشّرعي والتعليم المدني، احتك برجال العلم والسّياسة في سن مبكرة من حياته المليئة بالعطاء، واندفع في مرحلة شبابه في العمل الكشفي، كانت حقبة الخمسينيات التي نضج فيها مليئة بالتراكمات السّياسية والاجتماعية النّاجمة عن أحداث الثامن ماي 1945م، إضافة إلى انتشار الوعي السياسي المميّز لشباب هذه المرحلة، والذي تخمّر في ذهنه ضرورة العمل الجاد لتحويل الانسداد السّياسي الذي وصلت إليه الأحزاب الفاعلة إلى عمل ثوري منظم، فبلدته كانت تعج بناشط الأحزاب والجمعيات، وخاصة الشباب المنخرط في العمل السياسي، أمثال رفيق دربه الشهيد “احميدة عبد القادر”، الناشط السياسي والكاتب بجريدة ” ” la République algérienne، وإذا شاعت عن زميله الحماسة مع الاندفاع والجرأة، فإنّ حماسة السّيد عبد القادر دلاوي يحكمها التّعقل، وتضبطها الحيطة والحذر وحسن التصرف.
يعود الفضل في إقباله على العمل السّياسي، لتأثره بأفكار الشيخ النعيم النعيمي التي كان يبثها من خلال دروسه في جامع أولاد احميدة مطلع الخمسينيات، ممّا جعله يتحول من رجل التربية المكتفي بتعليم الصبيان إلى رجل مهتم بقضايا وطنه وبالعمل الجمعي المنظم. عمل ضمن جمعية العلماء المسلمين، وحزب أحباب البيان، قبل أن يغير انتماءه إلى حزب الشعب سنة 1955م، مَثَّل بلدته ضمن شبيبة البيان سنة 1952م في المؤتمر الوطني للحزب الذي عقد بالجزائر العاصمة، وساهم في تأسيس نادي أحباب البيان سنة 1953م الذي أشرف عليه النعيم النعيمي، كما شارك في المخيم الوطني للشبيبة الجزائرية برئاسة محمود بورويبة بجبل إمساعد جنوب بوسعادة بتاريخ 22 سبتمبر سنة 1954م، وحضره فرحات عباس، وأحمد فرنسيس وأحمد بومنجل.
محطات من النّشاط الثوري:
اشتملت هذه المذكرات على ومضات من محطات مختلفة من النشاط الوطني والثوري المدني ممّا اختزنته ذاكرة المؤلف، أرّخ فيها لفترة حاسمة من تاريخ الولاية السادسة(1956/1957)، شهدت اختراقًا كبيرًا في صفوف جيش التحرير، وكبّده خسائر كثيرة، وقراءة متأنية لما جاد به قلمه يصل بالباحث إلى ربط خيوط الأحداث المتشابكة التي أشار إليها، ويرسم صورة واضحة للوقائع دون مزايدات، وقد يبدو ما كتبه مقتضبا ويعوزه التنظيم، لما فيه من تقديم وتأخير وعدم ترتيب زمني، غير أنّه مشحون بمعلومات هامّة ظلت معتمة ومجهولة في تاريخ المنطقة الثالثة من الولاية السادسة« التي عرفت وضعا استثنائيا بسبب سياسة الاستعمار التي عملت على إنشاء جيش مواز لجيش التحرير الوطني»، لقد قلّ البحث والكتابة في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الثورة، لما شهدته من أحداث جسام، وتهيّبُ الخُلّصُ من المجاهدين من نبش أحداثها فتح المجال لكلّ غابش دعيّ، عاش على هامش الثورة، ليفرض وصايته عليها رواية وكتابة.
دون الأستاذ عبد القادر معلوماته بجرأة معهودة فيه، وتحاشى بأدبه التشخيص، وإن غلب على أسلوبه السرد التاريخي الخالي من التحليل للأحداث والمواقف، ووضّح أن دافعه من تدوين هذه المحطات التاريخية: « ما لمسه من جهل الكثير لأحداث المنطقة، وما شاهده من محاولة البعض تزوير التاريخ وتكييفه بما يناسب أهواءهم والظهور كعناصر فاعلة وخاصة مع بداية انطلاق الثورة ».
إنّ ما كتبه ” الأستاذ عبد القادر” لم يبرز فيه مواقفه الخاصة إلّا فيما تقتضيه الضرورة، ولم يتحدث عن نفسه أكثر من المطلوب، واهتم بسرد الأحداث كما عاينها، دون التعرض للأشخاص ولا التعليق على آرائهم، ومع هذا لم يسلم حديثه من الإغراق في وصف قائدين عظيمين من قادة الثورة ( زيان عاشور وعمر إدريس)، والحقبة الزمنية التي اقتصر فيها حديثه محصورة ما بين سنة 1956م إلى 1958م، وهي مرحلة مليئة بالتقلبات، حاول ضبط حديثه فيها في نقاط معينة:
- التنظيم المدني الثوري بمنطقة بوسعادة،« والخلايا الأولى للعمل الثوري التي تأسست لمساندة الثورة المسلحة في بدايتها.. غضون شهر جانفي 1955م» والهياكل التنظيمية الدّاعمة التي أسّست قبل مؤتمر الصومام، والصعوبات التي واجهتها، وخاصة مع تواجد جيشان في المنطقة، وانقسام هذه التنظيمات إلى قسمين الأول مرتبط بالجزائر العاصمة والثاني بالأوراس.
- التعريف بنشاط زيان عاشور قائد جيش الصحراء، المكلف من طرف الشهيد مصطفى بن بولعيد أوائل شهر ديسمبر 1955م ومواقفه من بعض القضايا.
- الصعوبات التي واجهت المجاهدين، بعد استشهاد زيان عاشور وخاصة مع ظهور الخائن” محمد بلونيس” الذي انقلب على الجيش واعتقل إطاراته، والدور الذي قام به الشهيد عمر إدريس ورجاله في مطاردته.
القائد الفذّ زيان عاشور:
تناول في عدة صفحات جانبا من حياة ونشاط الشهيد “زيان عاشور” القائد العام لجيش الصحراء، بداية من أوائل أوت 1955م إلى سنة استشهاده بتاريخ 5 نوفمبر 1956م، وكيف جرى أوّل لقاء جمعهما، عندما نزل ضيفا عند الشهيد محمد بدر الدّين ببوسعادة، فقاده الأخير إلى الكُتّاب الذي يدرس فيه السّيد عبد القادر دلاوي بالأقواس وسط البلدة ، ليجد زيان عاشور نفسه أمام معلم القرآن، رجلٌ مثقفٌ، نحيل الجسم، سريع البديهة، بينما السّيد عبد القادر هاله هذا الشخص الغريب، الملتحف بقشابية، وصاحب الملامح الصحراوية، والذي يتحدث باسترسال عن الجهاد وضرورة تحرير الوطن ،كان لقاؤهما الأول يغلب عليه التوتر، وخاصة من جانب المؤلف، بينما استشف “زيان” فيه صدق الطوية واستعداده للمشاركة في ثورة التحرير، ثم كيف رتب له لقاء جمعه مع ما يقارب 10 شبان معظمهم من أعضاء نادي أحباب البيان، لهم استعداد للتجنيد، لقد طلب منهم تكوين لجنة مدنية تعمل لفائدة الثورة، وجعل السيد عبد القادر على رأسهم. ازدادت ثقة الشهيد ” عاشور” به مع مرور الزمن، وتعددت اللقاءات بينهما، حتى أصبح موضع سره، يعرض عليه أهم النشاطات التي يقوم بها الجيش وطرق جمع السلاح. وينقل السّيد عبد القادر آخر لقاء جمعه بالشهيد بجبل إمساعد مع مجموعة من المجاهدين، حيث طرح القائد زيان سؤالا على الحاضرين، « هل تفرحون بالاستقلال والحرية ؟ فرد الجميع.. وكيف لا ؟ فقال: أنا أقول إذا كان جهادي مقبولا عند الله، أدعوه أن لا أعيش لذلك اليوم ».
الشهيدُ العابدُ عمر إدريس:
لم يقتصر المؤلف حديثه عن الشهيد عاشور زيان وإنما تكلّم عن لقائه الأول مع عمر إدريس في شهر أبريل من سنة 1956م، فوصف بشرته ولون شعره وعينيه وقامته، وصفاته التي منها شدة الحذر، وذكر أنّ من أسباب عداء البعض له سعيه لتمكين الطلبة والمثقفين من تولي المسؤوليات بمجرد التحاقهم بالجيش، وبفضل هذه الفئة المثقفة أصبح لجيشه مكاتب مخصصة منها مكتب لإنجاز الخرائط، وينقل قصة تدل على إيمان الشهيد عمر إدريس وتمسكه بدينه، عندما زاره بمقر الجيش بمنطقة (أقعيقع) بولاية الجلفة، وبات عنده في ليلة شديدة البرد، فقال: «كلما أفيق أثناء الليل أجد عمر إدريس يصلي كلّ مرّة ركعتين ويسلم، وبقي يقيم الليل إلى غاية الفجر، بعدها ينهض الضباط والجنود »، ويختم حديثه عنه بقوله: « لقد كانت الثورة حقا خالصة لوجه الله، وجهادا ناصعا لا غبار عليه قبل أن تدخل آفة السياسة والتحزب في صفوفها ».
تعرض المؤلف إلى الأحداث والآثار السلبية التي خلفها “محمد بن لونيس”، الرجلُ المشكوك فيه من قادة حزب الشعب بداية من سنة 1947م، فهو صنيع فرنسا- كما قال الرائد عمر صخري- دخل إلى الولاية السادسة مطرودا من الولاية الثالثة ثم الرابعة، وعاث فيها فسادا من بداية 1957م إلى صيف 1958م، تحدث عنه الأستاذ عبد القادر بإسهاب وأشار إلى محاولة أتباعه الانقلاب على جيش “عمر إدريس” ، واعتقالهم لأغلب قادة الجيش الذين بلغ عددهم 80 شخصا، وسرد المآسي التي عاناها هو بعد اعتقاله من جنود بلونيس، وما شاهده داخل سجنه بحوس النعاس، المعتقل الذي أعدم فيه صديقه الشهيد بدر الدين محمد والكثير من المجاهدين.
أنموذج من شعره:
نختم هذا العرض المختصر بهذه القصيدة من نظمه (رحمه الله)، وهي من فيض الشعر الوطني الحماسي الصادق النبرات، والذي يمجد الوطن ويحث على افتدائه:
من أَجلكَ قَاومتُ يَا وطَني
أَعَاديكَ في السّر والعَلَن
ورُحتُ أُقدمُ نَفسي فدَاكَ
من أَجل عُلاكَ مَدى الزَّمَن
تَركنَا الدّيَارَ وخُضنا الغمَارَ
وفي كُلّ ظُلمَة أَشعَلنَا نَارًا
من أَجل بَقَائكَ دَومًا مَنَارًا
مَنَارَ الحُرّيَة يَا وَطَني
رَفَعنَا لوَاءَكَ عندَ النَّفير
وَدُمنَا سلَاحَكَ ضدَّ المُغير
من عَهد الأَمير إلى ابن الأَمير
إلى أَن طَرَدنَا العدَا لَم نَن
وهَا نَحن نَمضي يَدًا في يَد
من مَاضينَا نَصبغُ وَجهَ الغَد
ونَسعَى لنَرقَى إلى أَعلَى مَرقَى
إلى قمَّة المَجد يَا وَطَني