الكلمة الطيبـة صدقة/ د. يوسف جمعة سلامة*
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
إن الكلمة الطيبة مطلوبة في كل المجالات وعلى مستوى كل العلاقات، لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)، وقوله- عليه الصلاة والسلام- أيضا: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)، لذلك يجب على المسلم أن يُكثر من الكلام الطيب الذي يتفق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وأن يبتعد عن الكلام السَّـيِّئ المخالف لشرعنا وديننا، فمن المعلوم أن الكلام السَّـيِّئ يكون سبباً مباشراً لهلاك صاحبه، لقوله – صلى الله عليه وسلم-:(إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ).
قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا
الكلمة الطيبة كما قال ابن عباس –رضي الله عنهما -: لا إله إلا الله، وهي التي بَعَثَ الله بها رُسُلَهُ الكرام –عليهم الصلاة والسلام – وأنزل كتبه لهداية الناس إلى الحق، طلباً لسعادة الدنيا والنجاة في الآخرة، فالكلمة الطيبة حَوَّلت البشرية من حال إلى حال ونقلتهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جوْر الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، وللكلمة مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي، لذلك جاء الهدي النبوي مُعَلِّماً المسلمين ضرورة أن يُؤَذَّن في أُذُن المولود اليمنى، وأن تُقَام الصلاة في أُذُنه اليسرى وذلك حين الولادة مباشرة، كما جاء في حديث أبي رافع -رضي الله عنه- قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ)، كي تكون أول كلمات تصل إلى مسامعه هي كلمة التوحيد، كما أنها آخر كلمة يقولها المسلم، كما قال –صلى الله عليه وسلم –: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ).
الكلمة الطيبة ترفعُ قَدْرَ صاحبها
إن الكلمة الطيبة ترفع قدر صاحبها وَتُعلي شأنه، فهذا الصحابي الجليل بلال –رضي الله عنه – كانت نفسه تهون عليه في الله عز وجل، وكان الذي يتولى كِبْرَ تعذيبه أُمية بن خلف وزبانيته، فقد كانوا يُلهبون ظهره بالسِّياط، فيقول: أَحدٌ أَحدٌ، وَيُطْبقون على صدره الصخور، فيُنادي: أَحدٌ أَحدٌ …، ويشتدون عليه في النَّكال، فيهتفُ: أَحدٌ أحدٌ …
لقد كان بلالٌ –رضي الله عنه – يستعذب العذاب في سبيل الله ورسوله، ويردد على الدَّوام نشيده العُلوِيَّ: أَحدٌ أَحدٌ…أَحدٌ أَحدٌ، فلا يَمَلُّ مِنْ ترداده، ولا يشبعُ من إنشاده.
هذا الموقف لبلال –رضي الله عنه – من المواقف المُشَرِّفة له، والتي أَهَّلَتْهُ ليكون أول مؤذن في الإسلام، كما ورد في كُتُب السيرة أنه لمّا دخل –صلى الله عليه وسلم – مكة المكرمة فاتحاً كان معه داعي السماء بلال بن رباح -رضي الله عنه -، ولما حانت صلاة الظهر كانت الألوف المؤلفة تُحيط بالرسول – صلى الله عليه وسلم -، وكان الذين أسلموا من كفار قريش يشهدون ذلك المشهد الكبير، عند ذلك دعا الرسول –صلى الله عليه وسلم –بلال بن رباح- رضي الله عنه-، وأمره أن يَصْعدَ على ظهر الكعبة، وأن يُعْلِنَ من فوقها كلمة التوحيد، فَصَدَعَ بلالٌ بالأمر، وأرسل صوته النديّ بالأذان، فامتدت آلاف الأعناق نحوه تنظر إليه، وانطلقت آلاف الألسُنِ تُرَدِّدُ وراءه في خشوع فبلال بن رباح -رضي الله عنه- اسمٌ يُحبّه المؤمنون، وصوتٌ تعشقه آذان المسلمين.
لقد رأى بلال –رضي الله عنه- محمداً –صلى الله عليه وسلم – فأحبّه، فلما أحبّه شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحبّ الدين الإسلامي الحنيف؛ لأنه دين العدل والمساواة، دين يكره الرّق ويحارب العبودية لغير الواحد الأحد، ويكره الظلم والظالمين.
لقد انتصر المسلمون بقيادة رسولنا –صلى الله عليه وسلم – وفتحوا مكة المكرمة، وها هو بلال الذي كان مُسْتضعفاً مُطَارداً مُعَذَّباً مُهَاناً في مكة المكرمة، أصبح المؤذن الأول في الإسلام، وها هو صوت بلال–رضي الله عنه– يُجَلْجِل في جبال مكة وهضابها وأوديتها، يُزلزل الدنيا بـــ: لا إله إلا الله.
ومن المعلوم أن بلالاً –رضي الله عنه – كان قد امتنع عن الأذان بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم –، وعندما فتح المسلمون مدينة القدس طالبه أمير المؤمنين عمر –رضي الله عنه – أن يرفع الأذان، فاستجاب بلال –رضي الله عنه – وارتفع صوته بالأذان، فإذا بأمير المؤمنين عمر –رضي الله عنه – يبكي، ثم بكى الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، وارتجّ المسجد الأقصى المبارك بالبكاء لتذكرهم لرسولهم وقائدهم محمد –صلى الله عليه وسلم –.
أثر الكلمة الطيبة
أخرج الإمام البخاري في صحيحه(عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسّنْحِ- قَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَعْنِي بِالعَالِيَةِ- فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ، عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلاَ مَنْكَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ).
عند دراستنا للحديث السابق يتبين لنا أن الكلمة تكون مؤثرة إذا خرجت من قلب مؤمن بها، ويكون لها الأثر السحري في نفوس السامعين وقلوبهم، ولا يكون هذا إلا مع الصبر، فعندما خرجت هذه الكلمات من أبي بكر –رضي الله عنه – كان لها هذا الوقع والأثر الطيب في نفوس الصحابة الكرام –رضي الله عنهم-، وصبرهم لما أصابهم من حَيْرَة واضطراب لوفاة النبّي –صلى الله عليه وسلم – .
لقد علَّم رسولنا –صلى الله عليه وسلم – البشرية كلها أثر الكلمة الطيبة، الكلمة الطيبة الصادقة الثابتة كالجبل الأَشَمّ الذي لا تهزه عواصف هوجاء ولا رياح عاتية، فيوم أحاطت به الأشرار تُحاول أن تُطفئ جذوة الإيمان، قال-صلى الله عليه وسلم – كلمته المشهورة التي طالما اهتزت لها أعواد المنابر، ووصل رنينها إلى أعماق القلوب، قال بلسان الحق: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله أو أهلك دونه!).
الكلمة الطيبة تُقرب القلوب وَتُطيّب النفوس
الكلمة الطيبة تُطمئن النفس، وَتُؤلف بين القلوب، وَتُحَوِّل العدو إلى صديق بإذن الله سبحانه وتعالى، كما تُحببك إلى الآخرين، فهي مفتاح الدعوة والقبول، ومن المعلوم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قد بدأ دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الكلمة الطيبة، فها هو –صلى الله عليه وسلم – يذهب إلى الطائف لعله يجد الأنيس والنصير، فسبوه وشتموه ورجموه، فجاءه المَلَكُ يعرض عليه أن يُطبق عليهم الأخشبين، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «اللهمَّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، لعلَّ الله يُخرج من أصلابهم مَنْ يُوَحِّد الله»، لم يشتمهم ولم يلعنهم، بل دعا الله أن يهديهم، وفعلاً استجاب الله دعاءه، وخرج من صُلب أبي جهل –عدو الله اللدود – الصحابي الجليل عكرمة، وخرج من صُلب أمية بن خلف –الكافر- الصحابي الجليل صفوان، وخرج من صُلب الوليد بن المغيرة –الكافر – سيف الله خالد.
فعلى الداعية أن يُعَامل الناس بلطف، وأن يُرَغِّبهم في دين الله، بالكلمة الطيبة والقدوة الصالحة والنية الخالصة حتى يوفقه الله، ويشرح صدور الناس لقبول دعوته بفضله سبحانه وتعالى، فليس المؤمن بطعَّان ولا لعَّان ولا فاحش ولا بذيء، كما جاء في الحديث: (لا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا).
إنّ الواجب علينا جميعاً أن نسير على هدي نبينا –صلى الله عليه وسلم- فمن صفات المؤمنين الصادقين أنهم ملتزمون بالكلام الطيب مع الناس جميعاً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.