أمتنا بين الاستبداد السياسي والثقافي -02/ عبد القادر قلاتي
لقد شكَّل تيار التغريب في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة، سنداً فكرياً لأنظمة الاستبداد والتبعية، وظلّ يغذي روح العداء ضد التيارات الأصيلة في الأمة، ويدعو للقطيعة مع تراثنا الفكري والروحي، من خلال المؤسسات الجامعية والملتقيات العلمية ومراكز البحث، مع كثافة في التأليف والتنظير، والتسويق لأسماء فكرية بعينها، كما تسلم رموز هذا التيار مقاليد المؤسسات الثقافية الفاعلة في بلداننا العربية والإسلامية، ومن خلالها مررت الكثير من مفاهيم القطيعة مع التراث، وتكريس واقع العلمنة في حياتنا الثقافية، خصوصاً في المدارس والجامعات، وارتبط الفكر والمعرفة والإبداع بهذه الثلة، فتسمع وتقرأ في وسائل الإعلام، أسماء هؤلاء، وتتابع الواقع الثقافي من خلال ما يكتبون في الجرائد الكبرى، وزاد من ارتباط هذا التيار بأنظمة الحكم، ما يجمعهم به من العداء للتيار الإسلامي، الذي يشكل معارضة حقيقية لكليهما، ثم الانتشار الواسع له في المجتمع لما يحمله من ثقافة أصيلة أعطت له مكانة سامقة، وحالة من المشروعية المبطنة انطلاقاً من موضعه الثقافي والفكري الأصيل، لكن هذا التيار –أي تيار العلمنة والتغريب- بالرغم مما يملكه من سلطة وقوَّة داخل منظومة الحكم، إلاّ أنه يفتقر إلى أبسط معاني الشرعية الثقافية، وهو ما دفع به إلى التحالف مع الأنظمة الاستبدادية حتىَّ تحوَّل تدريجياً إلى سلطة استبدادية أشدّ على الأمة من الاستبداد السياسي.
إن دعوة تيار التغريب للحداثة في المجال الثقافي والسياسي، دعوة عرجاء تفضحها دائما المواقف المشينة لرموزه، عندما يتعلق الأمر بمسألة الدولة وثقافة المجتمع، ففي السنوات الأخيرة -وخصوصاً ما ارتبط بثورات العربية- رأينا كيف تحوَّل هذا المثقف الحداثي أو ذاك، من الاستنارة المزعومة والحداثة الموهومة، إلى مستبد شرس، يحمل معول الهدم لتاريخه في النِّضال من أجل الحق والعدل والحرية والكرامة، فتنفصم شخصيته بوضوح تام، لتبرز الشخصية الحقيقية لهذا المفكر الكبير، ليتحوَّل إلى مجرد دعي حقير، تزول عنه هالة التقدير والاحترام، أذكر أنني شاهدت مقابلة مع المفكر المصري الشهير جلال أمين، والذي كنت احترم آراءه كثيراً، عندما انقلب العسكر على الشرعية في مصر، كيف ساق تحليلاً بائساً برَّر به الانقلاب الجائر على الشرعية، وكال جملة من التهم للرئيس الشرعي محمد مرسي، فأصابني كلامه هذا بحالة من الغثيان، أدركت أن هذا التيار لا يمكنه أن يقف مع الحق وأن يعدل مع المخالف له في القناعات الفكرية والسياسية، وما حدث في مصر ليس إلاَّ حلقة من حلقات التحالف المبطن بين الاستبداد السياسي والاستبداد الثقافي تاريخياً، فلو استعرضنا التاريخ المصري والعربي عموماً، لوجدنا حالات كثيرة، لهذا الردة الفكرية والأخلاقية التي أصابت عموم هذا التيار الخبيث، والحال أيضا في كثير من الأقطار العربية والإسلامية، التي عرفت تحولات سياسية وثقافية منذ الاستقلالات الوطنية، فهذا التيار برز بوضوحٍ في ظلِّ الاستعمار الغربي لبلادنا، ثمَّ واصل التحالف مع أنظمة الاستبداد والتبعية، وشكَّلا معا -في واقعنا الثقافي والسياسي- وضعاً مأزوماً لقضايا المجتمع والدولة، سنظل نعاني منه لفترات طويلة، إذا لم تحدث تحولات جديدة تنسخ هذا الواقع البائس. والله المستعان