معالجات إسلامية

” من فضائـل يوم عرفــة “/ يوسف جمعة سلامة

يتفيَّأُ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ظلال هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة، وأفضل هذه الأيام يوم عرفة، هذا اليوم الذي يجتمع فيه ضيوف الرحمن  على جبل عرفة في أطهر البقاع، في مهبط الوحي الذي عمَّ البلاد، لتأدية شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركان الدين، تلبية لنداء أبينا إبراهيم– عليه الصلاة والسلام- بالحج إلى بيت الله الحرام {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27].

ومن المعلوم أن اليوم التاسع من شهر ذي الحجة هو يوم عرفة، وفيه يجتمع الحجيج جميعاً في صعيدٍ واحد ليباهي الله تعالى بهم ملائكته، وهو يوم تتجلى فيه رحمة الله تعالى عليهم فيغفر لهم؛ كما تجلت فيه رحمة الله بالمؤمنين جميعاً فأخبرهم بأنه أكمل لهم الدين، وأتمَّ عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، وتتجلى فيه وحدة المسلمين في صعيد عرفات، حيث يلتقي أبناء العقيدة الواحدة في هذه الساحة الآمنة، وقد توحدت مظاهرهم في لباس واحد، يرفعون جميعاً أكفّ الضراعة تائبين مستغفرين، طالبين خاضعين، وآيبين عائدين لله الواحد الأحد، علاّم الغيوب وغفّار الذنوب، حيث يتجلى الله سبحانه وتعالى عليهم برحمته ومغفرته، فيردّ كلّ واحد منهم، وقد طَهَّره من رجس ذنوبه وعاد كيوم ولدته أمه.

* كلمات رائعة للإمام مالك – رحمه الله – حول هذه الأيام المباركة (العشر الأوائل من ذي الحجة):

يقول الإمام مالك – رحمه الله “من لم يستطعْ الوقوفَ بعرفةَ، فليقفْ عند حدودِ اللهِ الذي عَرَفَه، ومن لم يستطعْ المبيتَ بمزدلفة، فليبتْ عَزْمَهُ على طاعة الله ليقربه وَيُزلفه، ومن لم يقدرْ على نحرِ هديه بمِنَى، فليذبحْ هَوَاهُ هُنَا ليبلغَ به المُنَى، ومن لم يستطعْ الوصولَ للبيت لأنه منه بعيد، فليقصدْ ربَّ البيت فإنه أقربُ إليهِ من حبلِ الوريد”.

* فضل يوم عرفة:

يوم عرفة يوم معدود ومحفل مشهود، فَيَا لَهُ من يوم عظيم، ياليتنا نكون معهم فنفوز فوزاً عظيماً، وقد ورد فضله في مواضع كثيرة، منها:

@ في يوم عرفة أَتَمَّ الله نعمته على المسلمين، حيثُ أكمل سبحانه وتعالى لهم دينهم، وأتمَّ عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[المائدة:3]، فقد ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس– رضي الله عنهما– قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمّه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً، وقال أسباط عن السدي: “نزلت هذه الآية يوم عرفة” ،… كما رُوِي عن طارق بن شهاب قال: “جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال: قوله تعالى{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: عشية عرفة في يوم جمعة ” (1).

@ وجاء في فضل يوم عرفة، أنه أكثر الأيام خيراً وبركة، لما ورد في فضل صيامه أنه يكفر الذنوب العظام، وتلك نعمة من أجلّ نعم الله على عباده، لقوله – صلى الله عليه وسلم-: “…صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ” (2).

@ ويوم عرفة يوم عظيم الفضل، يغفر الله فيه الذنوب ويضاعف فيه الحسنات؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: (… وما من يومٍ أفضلُ عند اللهِ من يومِ عرفةَ، ينزِلُ اللهُ تباركَ وتعالَى إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السَّماءِ، فيقولُ: “انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ، جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ (3).

– وقوله – صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟” (4).

– وقوله- صلى الله عليه وسلم – أيضا: (مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلا أَدْحَرُ وَلا أَحْقَرُ وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ، قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلائِكَةَ ) (5).

* خطبته – صلى الله عليه وسلم- في يوم عرفة:

ومن تجليات الله سبحانه وتعالى على عباده في يوم عرفة، تلك الخطبة الجامعة التي ألقاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم – في هذا اليوم، وهو على ناقته القصواء، فقد خطب – صلى الله عليه وسلم- خطبته المشهورة في موقف خالد ومشهد رائع، وسط آلاف المؤمنين المحبين لنبيهم ودينهم، ألقى عليهم دستور الحياة ووصيته الجامعة التي تكفل لهم السعادة في الدنيا والآخرة، والكل منتبه ومشدود إلى حديث الرحمة المهداة – صلى الله عليه وسلم-.

ولدى مراجعتي لموضوع حجة الوداع في السيرة النبوية لفت نظري أمران، أحب أن أذكرهما:

الأمر الأول: هذا الجمهور الضخم من المؤمنين الذين لبّوا النداء، وجاءوا من كل حدب وصوب مصدقين برسالته – عليه الصلاة والسلام – مطيعين لأمره، وقد كانوا قبل ثلاث وعشرين سنة على الوثنية والشرك، بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء وجالدوه بالسيوف والرماح، ما الذي أحدث هذا التحوّل العجيب في عقيدتهم وسلوكهم، إنه الإيمان بالله، إنه تأييد السماء للرسول – عليه الصلاة والسلام –  لأنه على الحق.

والأمر الثاني: هذا الخطاب القويّ المُحْكم الذي خاطب به الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم – الناس أجمعين، فيه الخير كل الخير للإنسانية كلها، والأمن والاستقرار للمجتمعات كلها، والصلاح والفلاح للبشرية على مدى الدهر.

* خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْم عَرَفَةَ:

يُستحب الإكثار من الدعاء في يوم عرفة اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ، فقد أخرج الإمام الترمذي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْم عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير). (6)

كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النّبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ). (7)

ومن المعلوم أن الدعاء ملاذُ كلّ مكروب، وأملُ كلّ خائف، وراحةُ كلّ مضطرب، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28].

أخي القارئ: إذا كان حجاج بيت الله الحرام يُكثرون من التهليل والتكبير والتحميد في هذه الأيام المباركة، فواجبنا أن نشاركهم ذلك لاتحاد المشاعر والوجدان، وإذا كانوا يقفون على جبل عرفات يدعون الله ويسألونه من فضله حتى يباهي بهم ملائكته، فنحن هنا نصومه ونسأل الله من فضله، وإذا كان الحجاج ينحرون الهدي يوم الأضحى، فنحن هنا ننحر الأضاحي ونذبحها تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.

اللهم لا تحرمنا من مواسم الخير والبركة، واجعلنا من السَّـبَّاقين إلى الخير الداعين إليه، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، فأنت نعم المولى ونعم النصير.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، إنه سميع مجيب الدعاء.

وصلى الله على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم –  وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش :

  1- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/19-20

2- أخرجه مسلم              

3- أخرجه ابن خزيمه  

4- أخرجه مسلم      

5- أخرجه مسلم      

6- أخرجه الترمذي

7- أخرجه مسلم

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com