وصف الحج في رحلة ابن جبير الأندلسي/ د. إبراهيم نويري

يعدّ الرحالة محمد بن أحمد بن جبير الكناني الشاطبي البلنسي الأندلسي المشهور لدى جمهور القراء بابن جبير الأندلسي [539هـ ــ 614هـ/1144م ــ 1217م] من أشهر الرحالة العرب والمسلمين الذين أحسنوا تصوير مشاهداتهم ومرئياتهم في مختلف البلدان والأقطار التي وطئوا ثراها ونزلوا بساحاتها، ودرجوا على أديمها.
وقد ذكر بعضُ المؤرخين أن ابن جبير قام بثلاث رحلات متفاوتة في مداها الزمني، إلا أنه لم يدوّن منها سوى الرحلة الأولى، وهي الموسومة بـ: “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار”؛ وقد كتبها بطريقة تدوين المذكّرات اليومية والمشاهدات الآنية، وهي طريقة التوثيق السريع للمشاهد والانطباعات؛ وغالبا ما يعود إليها كاتبها ليعيد صياغتها اللغوية كي تأتي متماسكة من الناحية الأسلوبية ومن جهة التعبير الفني.
ولعلّ أول ما يلفت نظرنا في هذه الرحلة إشارة ابن جبير إلى صعوبة وأخطار بلوغ مكة المكرمة في ذلك الوقت [أواخر القرن السادس الهجري]؛ مثل قوله “والركوب إليها من جُدة آفة للحجاج عظيمة إلا الأقل منهم ممن يسلمه الله عز وجل، وذلك أن الرياح تُلقيهم على الأكثر في مراسٍ بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب؛ وربما كان من الحجاج من يتعسّف تلك المَجهلة على قدميه فيضلّ ويهلك عطشاً، شاهدنا منهم مدة مُقامنا أقواماً قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة وهيئاتهم المتغيّرة ..” [ص/46].
ثمّ يصور ابن جبير مدى انبهاره وانشداهه بمنظر الكعبة الشريفة وسط البيت العتيق، ويذكر طواف القدوم، والسعي بين الصفا والمروة، والإقبال على شرب ماء زمزم؛ ولا يفوته التذكير بالحديث النبوي الشريف الذي ورد في فضله، كما لا ينسى إزجاء الحمد لله تعالى – الذي وفّقه ومَن معه من مرافقين إلى نعمة بلوغ مكة المكرمة، والاستمتاع بأداء مناسك العمرة والحج، فيقول: “فألفينا الكعبة الحرام عروساً مجلوّة مزفوفة إلى جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلينا بالمقام الكريم، ودخلنا قبّة زمزم وشربنا من مائها، وهو لما شُرب له، كما قال صلى الله عليه وسلم، ثم سعينا بين الصفا والمروة، ثم حلَقْنا وأحللْنا. فالحمد لله الذي كرّمنا بالوفادة عليه وجعلنا ممن انتهت الدعوة الإبراهيمية إليه*، وهو حسبنا ونعم الوكيل..” [ص/58].
أما الوقوف بعرفات الذي كأنه يعدل الحج – وإنْ كان ركناً من أركانه فحسب – كما يُفهم من أسلوب الاستغراق الذي استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله “الحجّ عرفة” [متفق عليه]، فقد وصفه ابن جبير وصفاً مسهباً ضافياً، نقتطف منه هذه العبارات الموجزة، مع الإشارة إلى أنه واكب خلال ذلك العام يوم الجمعة، يقول: “والقبلة في عرفات هي إلى مغرب الشمس، لأن الكعبة المقدّسة في تلك الجهة منها، فأصبح يوم الجمعة المذكورة في عرفات جمعٌ لا شبيه له إلاّ الحشر، لكنه إن شاء الله تعالى حشرٌ للثواب، مبشّر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب، وزعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنهم لم يعاينوا قطّ في عرفات جمعاً أحفل منه … فلما جُمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين، وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرّعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤيَ يوم أكثر مدامع، ولا قلوباً خواشع، ولا أعناقاً لِهَيْبَة الله خوانع من ذلك اليوم ..” [ص/152].
ولا ريب أن هذا التوصيف دقيق صحيح، يَعرف ذلك كلُّ مسلم وفقه الله تعالى لمعايشة ساعات ذلك اليوم الأغر، وهو يقف على صعيد عرفات الطاهر، متوجّهاً إلى الله بالدعاء الخاشع والابتهال المنيب، وقد امتلأ بنفحات الإيمان التي تشرق بها نفوس وأرواح الحجاج خلال ذلك اليوم. ويكفي يوم عرفة شرفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة” [رواه مسلم].
هذه شذرات سريعة عن وصف ابن جبير لبعض مشاهد الحج، ومكابدات حجّاج بيت الله الحرام في سبيل بلوغ مكة المكرمة في تلك الأزمان البعيدة..، صنفها – رحمه الله – ضمن مصنّف رحلته الشهيرة [تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار]، وهي وإنْ كانت لا تُغني عن قراءة الرحلة كاملة، بَيد أنها ترسم لمحة ذهنية في عقل القارئ عن مدى احتفاء، وتأثر كُتاب حضارتنا الإسلامية القدماء بالحج، ومناسكه وشعائره وأجوائه العامة، والله الموفق إلى كلّ خير.
ـــــــــــــــــ
* يقصد ابن جبير بالدعوة الإبراهيمية: الإسلام.