متى ستشفى هاته العقول من مرض المحاباة؟؟/ أمال السائحي
القصص كثيرة وكثيرة جدا، حزينة كانت أم سعيدة، فهي دائما تتسم بالعبرة التي نستخلصها منها، حتى يكون لها وجه من الحقيقة التي نعيشها عبر الأزمنة…
تقول لي صديقة، وهي التي أحبت مقاعد الدراسة منذ نعومة أظافرها، وكان حلمها أن تحقق نجاحا يجعلها تحظى بمكانة مرموقة في عملها المستقبلي الذي لطالما انتظرته، وكان لها ما صممت عليه، بجدها ونشاطها وتفوقها.
ولكن حدث ما لم تتوقعه ولم يكن يخطر لها على بال، فكانت الصدمة التي جعلتها تسرد هذه الحكاية بمرارة، أنها لم تتوقع أن عملها ونشاطها وجدها وكدها، وتخلقها لن يجدي عليها نفعا، ولن يكون له أي أثر أو قيمة، أمام أساليب الغش التي درج عليها الناس في عصرنا هذا، في بلدنا هذا، ومحاباة المعارف على الكفاءة، فآلمها ذلك أيما إيلام وصمتت بعض الوقت لتبتلع دموعها ثم أردفت تقول: كانت هناك بطبيعة الحال فروضا واختبارات، وكانت هناك نقاط جيدة ومتوسطة وضعيفة، وتحصلت على أعلى نقطة وكانت الأولى، ولكنها فوجئت أنهم نصبوا واحدة في المرتبة الأولى رغم أنها كانت أضعف منها في النقاط…
وتساءلت المسكينة كما يتساءل كل من حرم من حقه في العلامة الكاملة، أو حقه في العمل وهو صاحب كفاءة وأنه يستحقه بجدارة، وتساءلت عن كل من اغتصب حقه لأنه ليس صاحب وجاهة، أو صاحب مال، أو ليس لديه من يدعمه ويحميه من عبث من يتلاعب بالنتائج الدراسية والمسابقات الوظيفية غير عابئ بالألم الشديد، والإحباط الأكيد الذي يسببه لمن كد وجد، ولا هم يبالون بما يتسبب فيه الذين جاملوهم ومنحوهم المراتب الأولى والشهادات من أضرار للمجتمع في مختلف القطاعات التي ينتسبون إليهم فيفسدون ولا يصلحون، بل سيخربون ويهدمون ولا يبنون…
سلوك المحاباة هذا هو الذي يجعل الأمر يسند إلى غير أهله في الطب، في الهندسة، في التعليم، في التكوين، بل في كل النشاطات، ومختلف القطاعات…
ومرض المحاباة هو الذي سبب لنا هجرة الأدمغة، وحرم مجتمعنا من كفاءات كان بمقدورها أن تنمي زراعتنا وأن تنمي صناعتنا، وأن تطور اقتصادنا، وأن تغير حالنا من أسوء حال إلى أحسن حال، هذا التصرف المقيت هو الذي جعلنا نرسف في التخلف ونبقى مرتهنين فيه بينما غيرنا يتقدم ويتطور يوما بعد يوم ونحن قابعون في مكاننا لا نتحرك، لقد مرت خمس وخمسون سنة عن استقلالنا ولكننا مازلنا إلى اليوم نداوي مرضانا في الخارج، ومازلنا نشتري غذاءنا وكساءنا من الخارج، وكذلك مركوبنا، وما كان ذلك ليكون، لو أننا احترمنا الكفاءة وأحسنا تقدير الجهود المبذولة، والمثابرة الموصولة…
ونتألم اليوم “للحراقة” الذين يموتون قبل وصولهم إلى شاطئ الأمان، كما نتألم لمن انحرف واختلس وزور وانتحل، ورشا، بينما نحن الذين تسببنا في ذلك كله، لأننا أخذنا بالمنهج المكيافيلي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة، في حين أن الوسيلة ينبغي أن تكون على نفس القدر من شرف الغاية، وإلا انفسح المجال لكل محتال ودجال لاحتلال المناصب وتسنم المراتب…
إن الشعوب تبنى أمجادها بكد شبابها، وبانضباطهم، وبالتحلي بالخلق الطيب في جميع مجالات حياتهم، حتى ينشأ جيل صالح جاد غير هازل، ومثابر غير متواكل، جيل صادق مع نفسه ومع غيره، قوي العزيمة يبذل وسعه لبناء وطنه، لا بناء وطن غيره، ولن يكون ذلك إلا إذا وجد عنده الصدق والأمانة، التي تيسر له بلوغ المكانة الاجتماعية اللائقة به، التي لا يتأهل لها بالنسب والانتماء، بل يستحقها بالجهد الصادق المبذول، والعمل المتقن الموصول، الذي يجعله أهلا للعطاء، وسببا قويا للازدهار والنماء…
فهل يا ترى تتفطن هذه العقول، أن ما يدمرونه أكثر مما يبنونه، أو يعطون له الأولوية في الظهور والارتقاء من مرتبة إلى أخرى، فما كان لي إلا أن قلت لها صدقت يا أخية ويا ليتنا ننجو من هذه البلية؟…