رؤية في تجديد روح التآزر والتكافل بين المسلمين/ د. إبراهيم نويري

إن من يواظب على قراءة القرآن الكريم يجده قد تحدّث في مواضع كثيرة من سوره وآياته الكريمة عن عناصر مقوّمات بناء المجتمع المسلم، وعن عناصر تكوينه وبنائه من الفرد والأسرة والجماعة، كما يجد بأنه قد تحدّث أيضاً عن العلاقات الاجتماعية الواسعة، وأنه جعل أساس ذلك كله الدعوة إلى التعارف الإنساني في نطاقه العام، الذي لا تقيّده أي اعتبارات أو عوائق مهما كان نوعها .
كما نرى ذلك مثلا في قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]؛ وهذه الدعوة مثلت في بدايات مراحل التنزيل الكريم صدمة للعرب تشبه صدمة الدعوة إلى التوحيد في بيئةٍ تمكّن منها الشرك تمكّنا بعيد المدى، لأن العرب قبل الإسلام كانوا لا يعتزّون في أرومتهم الموروثة بغير العصبية القبلية، إلى جانب عدم تسليمهم المبدئي بأساس معيار التكافؤ بين السادة والضعفاء والأرقاء والبسطاء من الناس، وكأنهم كانوا قبيلاً من جنسِ كفار قوم نوح الذين قالوا لسيدنا نوح صلوات الله وسلامه عليه:{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}[هود: 27].
واستقراء هاته المسألة يبيّن بوضوح بأن الأمة الإسلامية تقوم فيها الروابط على وحدة الدين والعقيدة أي:” مرجعية الاستمداد والتلقي والاهتداء”، وعلى وحدة النُّظم الاجتماعية العادلة والعبادات الجامعة، والمبادئ الخلقية والقيم الفاضلة، ذلك أن الاجتماع في مكان واحد مع اختلاف العناصر يكوّن اجتماعاً يحمل في مكنوناته وبواطنه عوامل انحلاله، خاصة إذا انعدمت أو تراجعتْ هيمنة المنازع الروحية التي من شأنها تهذيب المسالك غير اللائقة بإنسانية الإنسان، لذلك كان الاجتماع باسم الإسلام لا يقوم في أصل بنائه على أساسٍ من المغالبة أو المنازعة، بل على أساس قاعدة الأُخوة العامة بين المسلمين، والمودّة والرحمة بين أفرادهم وجماعاتهم، والتعاون الكامل فيما بينهم، وكذا التعاون مع غيرهم من الدول والأنظمة والمجتمعات والقوى التي لا تناصبهم العداء، ولا تحكم بروح العصبية والعنصرية والاستعلاء العرقي والقومي وغيره.
كما أن الإنسان بطبيعته يشعر أنه كائن اجتماعي ليس بمقدوره أن يعيش بمفرده منعزلا عن الناس، لاسيما أبناء مجتمعه، فهو بحاجة ماسة إليهم يتحاور معهم ويتبادل مع مجموعهم المصالح والتطلعات والآمال المشتركة، ولا ريب أن كلّ إنسان عاقل يشعر بأنه لو لم يتحمّل مسؤوليته تجاه الآخرين، فإنه لا يجوز له بالمقابل أن ينتظر من الآخرين أن يتحمّلوا بالنسبة له أي مسؤولية، فالإنسان الذي يتنكر لالتزاماته الأخلاقية إزاء الآخرين هو إنسان يعزل نفسه عن المشاركة الاجتماعية والإنسانية.
لذلك يبدو الأمر موغلا في الغرابة والتناقض إذا ما بادر المرء إلى التنكّر لهذه المسؤولية والهروب من مقتضياتها وتداعياتها الخاصة والعامة، ويريد في الآن نفسه أن يتضامن الآخرون معه عندما يكون هو بحاجة إلى تضامن الآخرين، وإلى وقوفهم إلى جانبه في وضع من الأوضاع أو حالة من الحالات؛ ذلك أن أفراد المجتمع ــ كلّ من موقعه ــ ينبغي أن يدركوا حقيقة نواة الوحدة العضوية التي تجمع مجتمعهم، وتمنح وجودهم الاجتماعي قوةً وشعوراً بروح المسؤولية المتكاملة الإيجابية المتضامنة المتآزرة.
أما الدراسات والبحوث التي أنتجها العقل المسلم المعاصر في هذا المجال، فإنها تتفق على أن المجتمع الإسلامي الأول، وتحديدا المجتمع النبوي، أو المجتمع الإسلامي في عصر النبوة والتنزيل، يُعتبر المجتمع الأنموذج أو المثال أو القدوة أو البوصلة الهادية، ليس من منطلق أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم نظام اجتماعي محدد، بل مراعاةً لمقصد تحصين المجتمع الإسلامي من دواعي الضَّعف والتفكك التي كان عليها العرب قبل نزول القرآن، فقد كان مجتمع الجزيرة ممزقا لا يجمعه كيان ولا يلمّ شمله نظام، إذ كانوا قبائل متناثرة في أجواء علاقات مضطربة أو متوترة، تفضي في الغالب إلى الاحتراب والتقاتل والعداء، ولأسباب تافهة واهية في الغالب، تخلو تماما من المعنى الحقيقي الذي يبرّر نشوب الحرب والقتال.
ولعلّ كثرة المعارك ـــــ التي دونها التاريخ ـــــ تبيّن كيف أن معظم تلك الحروب أو المعارك كانت تنشب لأتفه الأسباب، فمعارك القبائل القحطانية فيما بينهم بلغت عشر معارك، ونشب بين القحطانيين والعدنانيين ما يربو على عشر معارك أيضا. وفيما بين قبائل ربيعة ست معارك، وما بين ربيعة وتميم خمسة عشرة معركة، وبين قبائل قيس إحدى عشرة معركة، وبين قيس وكنانة عشر معارك وبين قيس وتميم سبع معارك، وبين قبائل ضبة وغيرهم خمس معارك.. إلى غير ذلك من الحروب والمناوشات والغارات المتفرقة التي وثقتها بعض أسفار وكتب أيام العرب.
وفي هذا المجتمع القبلي، الذي تسري في أوصاله نزعةٌ عارمة من روح التطرف في الولاء للقبيلة..وبين جنبات هذا المجتمع الذي يعيش حالة من التناقض والصراع والاحتراب بين قبائله ومكوّناته، بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، هاديا ومبشرا بدين الله الخاتم، الإسلام الحنيف، فاستطاع خلال أقل من ربع قرن من الزمن أن يبني من تلك القبائل المشتتة المتقاتلة المتعادية مجتمعا متماسكا وكيانا موحّدا متكافلا ومتآزرا .
ليس ذلك فحسب، بل أيضا يحمل للعالم كله شرقه وغربه رسالةً تتضمن خلاصة الدين الإلهي ومشروعا حضاريا متقدما ينطوي على الجوهر الحقيقي لإنسانية الإنسان ولرسالة الاستخلاف الحق في الأرض المؤسسة على حقيقة العبودية لله ربّ العالمين وإسعاد الإنسان في مرحلتي الحياة العاجلة والآجلة.
ومما تقدّم يمكن لنا أن نستخلص بأنه يتوجّب على كلّ مسلم في المرحلة الراهنة أن يعتقد بأن المفهوم الأسلم لوحدة المسلمين يجب أن يستند إلى ما يلي:
1 ـــ سلامة العقيدة من كلّ الشوائب وبوغاء الأفكار والفلسفات والعادات والتقاليد البالية والتصورات المترهلة.
2 ــــ تجسيد مبدأ الأُخوّة العامة على النحو الذي وضّحه القرآن الكريم والواقع التطبيقي للسيرة الشريفة والسنة النبوية المطهّرة.
3 ـــ النظر إلى المجتمع النبوي باعتباره مثالاً ينبغي أن يُحتذى به.
4 ـــ العلاقات الاجتماعية والإنسانية في المجتمع المسلم المعاصر ينبغي أن تقوم على الالتزام البصير بالقيم والمعاني والأهداف التي قرّرتها الشريعة الإسلامية السمحة، ودلّ عليها التطبيق العملي الصحيح لمقاصدها العامة.