على بصيرة

الجزائر: من الحراك التحريري إلى الحراك التغييري/ أ. د. عبد الرزاق قسوم

بعد ست عقود من الحفر في ذاكرة تاريخنا الوطني، استوقفتني علامات بارزة ومضيئة، ارتسمت على جدارية الزمن الجزائري، سجلها الحراك الشعبي، الذي صنعه الجزائريون في اليوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1960.

فقد كانت المعركة الثورية الجهادية محتدمة على أشدها، في جبالنا المباركة بين جيش التحرير الوطني الباسل، والقوى الاستعمارية الغاشمة، وكانت المعركة السياسية حامية الوطيس على مستوى المنابر الدولية، وخاصة الأمم المتحدة بين الدبلوماسيين الجزائريين بقيادة الحكومة الجزائرية المؤقتة من جهة، والدبلوماسية الفرنسية المطاردة من كل أحرار العالم من جهة أخرى.

يومها كان لابد من انبثاق حراك شعبي داخل الجزائر، يكون بمثابة الاستفتاء على شرعية القيادة السياسية ممثلة في الحكومة المؤقتة، فانبثق الحراك الشعبي الجزائري في أحياء العاصمة كالمدنية، وحي محي الدين، وبئر مراد رايس، وباب الواد، وغيرها من الأحياء الشعبية.

جاءني إلى مدرسة السنّية بحي بئر مراد رايس يومها المسؤول عن الجهاد في المنطقة ” سي يحي” الاسم الحرَكي، واسمه الحقيقي أحمد زيغم، أطال الله عمره، وهو اليوم من المجاهدين الفاعلين في بئر مراد رايس.

كان من عادته أن يأتيني إلى هذه المدرسة عندما يريد توزيع تعليمات صادرة عن الجبهة أو تقديم مساعدات لأسر المجاهدين والشهداء، فنستغل استراحة التلاميذ في اللعب، ونتذاكر في ما يجب القيام به.

في ذلك اليوم كان الموضوع هو الحراك الشعبي المبارك، الذي انبثق في الأحياء الشعبية، وكان لابد من التكفل به من حيث التأطير التنظيمي، والترشيد الإعلامي بتصحيح وتعميق الشعارات المرفوعة.

كانت شعارات الحراك عادية جدا مثل الجزائر جزائرية، فاتفقنا على تغيير الشعارات وتعميق مدلولاتها، فكلفت بكتابة الشعارات باللغتين العربية والفرنسية على قطع كبيرة من القماش أخذتها إلى بيتي،  وفي الغد رفع المتظاهرون شعارات جديدة: مثل:

” الجزائر عربية مسلمة” و” تحيا الحكومة الجزائرية المؤقتة” و” يحيا الاستقلال والحرية” إلخ. وبذلك ارتفع حماس الشعب الجزائري، وقويت معنوياته، كما ساهمت الشعارات المرفوعة في تحطيم معنويات العدو الفرنسي المحتل.

لقد قدم الحراك الشعبي الجزائري آنذاك رسالة تحريرية قوية إلى العالم، وإلى القيادة الجزائرية، فكان ذلك مؤذنا بقرب ساعة الخلاص، ودنو يوم الاستقلال الفاصل، الذي أصبح آتيا لا ريب فيه، وهكذا كان يوم الحادي عشر من ديسمبر 1960، المقدمة السليمة، ليوم الخامس من يونيو، والمتوج الحقيقي لجهاد نوفمبر الخالد.

وتمضي السنون، وتتعاقب على الحكم الجزائري أنظمة، وقيادات، تباينت بين المد والجزر، إلى أن انتهت إلى الحراك الشعبي الميمون، الذي هو الحراك التغييري لجميع الشؤون، والذي يخوضه شعبنا اليوم شيبا، وشبابا، وكهولا، نساء ورجالا.

وكما بدأ  الحراك الشعبي التحريري قويا في عام 1960 بحركاته وشعاراته وتطلعاته ها هو ذا الحراك الشعبي التغييري الذي انطلق – هو الآخر – قويا برجالاته وفتياته، وشعاراته وتفاؤلاته، وها هو يتواصل في الحادي عشر من ديسمبر 2019، تواقا إلى التغيير الجذري في النظام وفي الأحكام، في التسيير وفي المصير.

وإذا كان الحادي عشر من ديسمبر عام 1960 قد نجح في الوصول بالجزائر إلى بر الأمان فتحقق استقلالها، وخلد أبطالها، وتجلت أعمالها، فهل ينجح الحادي عشر من ديسمبر 2019 وهو يجئ في خضم المعركة الدائرة اليوم بين من ينشدون للجزائر القطيعة مع الممارسات الماضية، والعصابات الباغية، والأفكار الفاسدة الطاغية، وبين من يريدون ربطها بالمصالح الأجنبية، وقطعها عن أصولها الحضارية الحقيقية.

ليت أبناء الحراك الشعبي التغييري اليوم، وهم يقفون على حافة الحادي عشر من ديسمبر، يستعيدون أمجاد ماضيهم المجيد، كما جسده سلفهم التليد، فيسهمون في وضع لبنات المستقبل السعيد،  بعيدا عن العنف بجميع أشكاله، كما يريده لهم بعض أتباع الشيطان المريد ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً﴾[ سورة فاطر الآية: 06].

إن ذكرى الحادي عشر من ديسمبر هذه السنة تكتسي أهمية خاصة، لأنها تحل في زمن حقق فيه الحراك الشعبي هداه، ووصل الاحتقان، بل والانقسام الوطني فيه مداه، فهل نجعل من هذا الموعد، كما فعلنا منذ عقود عديدة جسرا نعبر به إلى الجزائر الزاهرة، الآمنة، المطمئنة، التي يحلم بها كل الشرفاء والمخلصين من أبنائها؟

إن ما صنعه السلف، لا يعجز عنه الخلف، إذا سلمت النوايا، وأخلصت النفوس للنبيل من القضايا، وحينها نزف إلى الجزائر أصدق التحايا.

فيا أبناء الجزائر!

الله! الله! في الوطن. فهو أمانة الشهداء في أعناقكم، ووصية العلماء في ضمائركم.

فبالرغم من كل ما يسود الوطن من المحن والفتن، سنظل متفائلين، ذلك أن التفاؤل كما يقول الداعية الفلسطيني الشاب محمود الحسنات في كتابه (جواز سفر):” التفاؤل ليس من الخيال، إنه حلم مستقر في قلوب الرجال، يسعون إليه بعزم الأبطال، ويسيرون نحوه، بهمة تفوق الجبال”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com